الفصـــل الرابع
القصـد الجنائـي في الاختلاس والتبديد والفرق بينهما من خلال الفقه والقانون والاجتهاد القضائي المغربي والمقارن
يعني الاختلاس مدلولا قانونيا آخر غير المدلول الذي يعنيه لفظ التبديد، فإذا كان الاختلاس لغة يفيد أخذ الشيء خلسة والخلسة تعني الخفية، فإنه يقصد به قانونا أخذ الأموال الموضوعة تحت يد الجاني بنية تملكها، أما التبديد فهو ليس مجرد تحويل الحيازة كما هو الشأن في الاختلاس، بل التصرف في الشيء بأي وجه من أوجه التصرفات سواء كانت قانونية أو غير قانونية. وفي كلا الجريمتين يشترط توفر القصد الجنائي لدى الجاني.
وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم هذا الفصل إلى مبحثين، نتناول في الأول مفهوم الاختلاس والتبديد، والثاني نخصصه للقصد الجنائي.
المبحث الأول: مفهوم الاختلاس والتبديد
لدراسة القصد الجنائي في جرائم الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ والفرق بين ما ذكر من خلال الفقه والاجتهاد القضائي والقانون المقارن، ينبغي التطرق إلى القصد الجنائي (المطلب الأول) ثم الفرق بين كل من جرائم الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ (المطلب الثاني) ، ثم الاختلاس والتبديد من خلال الفقه والقضاء المقارن (المطلب الثالث) لنخلص في الأخير لموقف القضاء المغربي (المطلب الرابع).
المطلب الأول: مفهوم القصد الجنائي في جرائم الاختلاس و التبديد
يتضمن التعريف الشامل لكل جريمة صراحة أو على سبيل الاستدلال إشارة إلى الركن المعنوي، وعلى هذا إذا ثبت تخلف العنصر المعنوي في أي سلوك يدعى لتشكيل جريمة في أية قضية مطروحة فإن الجريمة بهذا الوصف لا تكون قد ارتكبت وبعبارة أخرى إذا تم تعريف الجريمة بشكل شامل فإن أي شيء لا يرقى إلى تلك الجريمة ما لم يوافق ذلك التعريف ، وبعبارة أخرى لا يمكن تجريم الشخص ما لم يمكن تجريم قصده.
ولقد اعتبر قانون المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" هذا الركن ضروري، حيث نصت المادة 32 صراحة على أنه يتحقق القصد الجنائي بتعمد الفاعل تبديد الأشياء أو اختلاسها أو احتجازها بدون حق أو إخفاء أموال عامة أو خاصة مع علمه أنه لا حق في تصرفه هذا.
وتنتفي الجريمة بانعدام القصد الجنائي كأن يعتقد الفاعل أن المال ماله أو أنه لم يسلم إليه بسبب وظيفته كتوصله بمبلغ مالي عن طريق البريد وباسمه الشخصي فاعتقد أنه وفاء دين أو هدية واستهلكه ثم تبين أنه وجه إليه بمقتضى وظيفته أو بسببها أداء لضريبة أو رسم مثلا .
وإذا بدد الموظف المال على أساس الاقتراض وبنية إرجاعه لا بقصد الاستئثار به نهائيا خضع للمادة 32 المذكورة، لأن القانون لم يقتصر على تجريم الاختلاس الذي يتحقق عادة بالاستيلاء على الشيء بقصد التملك والاستئثار به، بل جرم إلى جانبه التبديد والاحتجاز بدون حق وهما يتحققان ولو لم تتوفر لدى الجاني نية التملك .
وهكذا يتبين أن القصد الجنائي يعني القصد الإجرامي اللازم لإدانة الشخص العادي البالغ والذي يتصرف دون إكراه لارتكاب جريمة من جرائم الاختلاس والتبديد أو استغلال النفوذ، فالقصد الجنائي أشبه بالحرباء يتلون بمختلف الألوان طبقا للظروف المتباينة .
فالقصد الجنائي في جرائم الاختلاس يتحقق بكل عمل أو تصرف تتجه فيه نية المتهم قصد استيلائه على الشيء الموضوع تحت يده ويتصرف فيه ، وإرجاع الشيء المختلس أو المحتجز من طرفه لا يؤثر على ارتكاب الجريمة لأن الجريمة قد استنفذت آثارها، وأن إرجاع ذلك الشيء إنما هو من قبيل الندم على الفعل الذي ارتكبه، وإنما يكون له أثر على الحكم في التخفيف من العقوبة عن المتهم واعتبار أن إرجاع ذلك الشيء إنما أظهر إصلاحا للآثار التي تركتها أفعاله الإجرامية .
وفي جريمة استغلال النفوذ فإن القصد الجنائي يتحقق بحمل الغير على قضاء حاجة صاحب المصلحة الذي قدم له مكافأة عن تدخل وحمل ذلك الغير على تحقيق رغبة من أخذ المكافأة ، هذا النفوذ قد يكون حقيقيا أو مفترضا، وهذه الجريمة تقع بمجرد الموافقة، ولا يشترط أن تكون قد تمت أو تم البدء في تنفيذها وقد ترتكب من طرف غير موظف ، على خلاف جريمة الرشوة التي تشترط أن يكون الجاني يحمل صفة موظف .
ولا ريب أن المشرع يهدف من وراء ما ذكر إلى الحد من استغلال الموظف لوظيفته أو المتاجرة بها .
المطلب الثاني : الفرق بين الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ
يقصد بجريمة الاختلاس المصنفة في إطار جرائم الإخلال بالثقة العامة ، الجريمة التي كان منصوص عليها وعلى عقوبتها في المادة 32 من قانون المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" والمادتين 241 و242 من القانون الجنائي كما وقع تغييره وتتميمه دون ما سواها من جرائم الإخلال بالثقة العامة التي يرتكبها الموظفون العموميون وغير الموظفين العموميين.
وقد ميز القانون بين جرائم التبديد والاختلاس والاحتجاز بدون حق والإخفاء ، فالتبديد يقصد به التصرف في الشيء تصرفا ماديا أو قانونيا كاستهلاكه أو بيعه أو إيجاره ومقايضته أو نحو ذلك .
وعلى هذا فالتبديد ليس مجرد تحويل الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة كما هو الحال في الاختلاس، ولا يدخل في التبديد تعييب الشيء وجعله غير صالح للانتفاع به إضرارا بصاحبه، فهذه الحالة تدخل في التبديد المنصوص عليه في المادة 242 من القانون الجنائي والذي يتحقق بمجرد وجود سوء النية أي تعمد التبديد ذاته بصرف النظر عن الغاية منه كما يتحقق بقصد الإضرار .
أما الاختلاس فيتحقق بكل عمل أو تصرف ينبئ عن اتجاه نية الجاني إلى الاستيلاء على الشيء بصفة نهائية أو بقصد تملكه أو لأي سبب آخر كتملكه للغير أو إتلافه.
والإخفاء قد يكون تتمة لعملية الاختلاس، وقد يتم ببقاء الأشياء في مستودعها، ويكتفي الجاني بادعاء عدم وجودها، أو بإخفائها عن الأعين وهي في مكانها. ومجرد اكتشاف نقص لدى الجاني في الأموال أو الأشياء المعهود بها إليه يعتبر قرينة على قيامه بالإخفاء أو الاختلاس ولا يعفيه من العقاب إلا نفيه القصد الجنائي بأن يثبت سببا أجنبيا لذلك النقص، أو أنه كان نتيجة غلط أو خطأ غير مقصود .
أما استغلال النفوذ فيعد مرتكبا لاستغلال النفوذ حسب المادة 26 من المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" كل من طلب أو قبل عرضا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو أي فائدة أخرى من أجل تمكين شخص أو محاولة تمكينه من الحصول على وسام أو نيشان أو رتبة شرفية أو مكافأة أو مركز أو وظيفة أو خدمة أو أية مزية أخرى تمنحها السلطة العامة، مستغلا بذلك نفوذه الحقيقي أو المفترض .
ويقصد بالنفوذ أن يكون للشخص نوع من التقدير لدى بعض رجال السلطة الذين بيدهم تحقيق مصلحة ذي شأن مما يمكن له من حملهم على قضائها، وقد يكون ذلك راجعا إلى مركزه العام في المجتمع وقد يكون بسبب حقوق خاصة تربطه ببعض رجال السلطة كالقرابة والصداقة أو ما شابه ذلك .
وتجتمع الرشوة واستغلال النفوذ في الركن المادي، وفي الهدف أو الغاية من التجريد .
ويتعين لقيام جريمة استغلال النفوذ أن يسعى الجاني بنفوذه (سواء لدى رجال السلطة العمومية أو بسبب وظيفته أو جاهه) إلى جهاز السلطة العمومية أو إدارة أو مؤسسة عمومية تحت إشرافها ولا يشترط في الجاني أن يكون موظفا .
المطلب الثالث: الاختلاس والتبديد من خلال الفقه والقضاء المقارن
انقسم فقهاء القانون الفرنسي في تعريفهم لمدلول كلمة الاختلاس Soustraction إلى فريقين:
المذهب الأول: يقول أصحاب هذا المذهب في تعريفهم للاختلاس الوارد في المادة 379 من القانون الفرنسي أنه يقصد به نفس المعنى الواسع الذي كان متعارف عليه في ظل القانون الروماني، وذلك للاعتبارات الآتية:
1 ـ إن التعريف الوارد في المادة 379 هو نفس التعريف الذي كان يقول به فقهاء القانون الروماني.
2 ـ إن كلمة « Soustraction » التي كان يستعملها دائما فقهاء القانون الفرنسي القديم هي ترجمة كلمة « Contect aia » اللاتينية، وإذا قيل بأن الكلمة الفرنسية ليست ترجمة حرفية للكلمة اللاتينية فإنه يرد على ذلك بأن هذه الكلمة الفرنسية هي أدق تعبيرا بالنسبة للكلمة اللاتينية. وعلى ذلك فإن المقصود بالاختلاس في القانون الفرنسي هو نفس المعنى القديم الذي كان متعارف عليه في القانون الروماني.
3 ـ إنه لو صح أن المشرع الفرنسي أراد مخالفة المعنى الواسع المقصود في القانون الروماني لما استعمل كلمة اختلاس في أحوال يكون المال فيها مسلما إلى الجاني، ومن ذلك مثلا نص المادة 169 من القانون الفرنسي التي تعاقب الصيارفة الذين يختلسون الأموال الأميرية التي تسلم إليهم بسبب وظائفهم، ولا شك في أن هذا يدل أوضح دلالة على أن كلمة الاختلاس في هذا النص لها نفس معنى كلمة Contrectatio .
4 ـ وأخيرا يستند أصحاب هذا المذهب إلى نص المادة 408 من القانون الفرنسي التي لم تكن تعاقب الوكيل المبدد ومن تم كان يفلت من العقاب، وكذلك فإن هناك أحوالا لو أخذ بالتفسير الضيق فيها لكلمة الاختلاس لما عوقب جناة يتأتى الشعور العام من إفلاتهم من العقاب ولما أمكن تطبيق نص المادة 404 الخاصة بالنصب عليهم، والقول بتعميم معنى الاختلاس يؤدي إلى سد مثل هذه الثغرات دون ما تعارض مع هذه النصوص .
المذهب الثاني: يقول أنصار هذا المذهب أن المشرع وقد فرق بين جرائم الاعتداء على الأموال وميز بين جرائم السرقة والنصب وخيانة الأمانة وحدد الفعل المادي لكل منها، فلا شك أنه قد حدد لكلمة الاختلاس في كل جريمة من هذه الجرائم معنى يختلف في كل منها عنه في الآخر.
وخلاصة هذا المذهب أنه لكي يكون هناك اختلاس فيجب أن يقوم الجاني بفعل ينقل به الشيء من حيازة صاحبه إلى حيازته بغير رضاه، وعلى ذلك فإن الاختلاس يتضمن عنصرين اثنين: عنصر مادي هو نقل الشيء وعنصر معنوي هو القصد الجنائي أي نية التملك، وبمعنى آخر فإنه حيث يكون هناك تسليم سابق لا يكون اختلاس وأن الاختلاس هو الركن المادي لجريمة السرقة ولا يتعداها إلى سواها من جرائم الاعتداء على الأموال.
ويتفق الفقيهان "جارو" و"جارسون" بأن جريمة اختلاس الأموال العمومية ليست سرقة بل هي خيانة أمانة من نوع خاص، ويتم الاختلاس كما في جريمة خيانة الأمانة متى أضاف المختلس الشيء الذي سلم إليه إلى ملكه أو تصرف فيه على اعتبار أنه مملوك له ، أما التبديد DISSIPATON فهو التصرف في الشيء تصرف المالك بعد أن كان مسلما على سبيل الأمانة، ويرى هذان الفقيهان أن الاختلاس DETOURNEMENT والاستعمال EMPLOI والتبديد DISSIPATION هي أفعال تتضمن كلها فكرة تغيير وجه الشيء متى غير الحائز حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة بنية التملك.
أما عن الاختلاس في التشريعات العربية فإن هذا اللفظ لم يذكر إلا في التشريع المصري ( المادة 341 عقوبات مصري) والسوري ( المادة 656 عقوبات سوري) واللبناني ( المادة 970 عقوبات لبناني) ، ويلاحظ أن المادة 656 عقوبات سوري هي صورة طبق الأصل بدون تحريف أو اختلاف عن المادة 970 عقوبات لبناني بمعنى أنها نقلت نقلا حرفيا عن قانون العقوبات اللبناني.
كما أن نص المادة 341 عقوبات مصري ينطبق تماما على نفس اللفظ الوارد في المادتين 656 سوري و970 عقوبات لبناني إذا ما أخذنا في الاعتبار أن النصين المذكورين قد تأثرا بنص المادة 408 عقوبات فرنسي إلى حد ما.
ويتحقق الاختلاس حسب التشريع المصري بكل فعل لا يخرج به الأمين الشيء من حيازته وكل ما يفعله أنه يغير من حيازته الناقصة إلى حيازته بنية التملك، ومن تم فكل فعل ينبئ عن مجرد قصد الجاني في تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة.
أما عن موقف القضاء من جريمة الاختلاس فقد أخذت محكمة النقض الفرنسية بعدم كلمة الاختلاس وعدم التوسع في تفسيرها، فقضت في قضية مشهورة تعرف بقضية « Yvornet » بأنه لا سرقة إذا كان الشيء قد سلمه المجني عليه برضاه واختياره، وإنما السرقة هي أن يختلس الجاني الشيء اختلاسا أي يسلبه أو يأخذه أخذا بدون رضا صاحبه.
ولقد رددت المحاكم الفرنسية في معظم أحكامها هذه العبارات مقتفية في ذلك أثر محكمة النقض الفرنسية، كما ردد أغلب الشراح هذه الألفاظ مستعملين في تعريف الاختلاس عدة كلمات هي: الأخذ والنقل والانتزاع والسلب، وبذلك نرى أن المذهب الثاني في تعريف الاختلاس هو الذي سار عليه الفقه والقضاء الفرنسيين.
أما عن موقف القضاء المصري، فقد ذهبت محكمة النقض المصرية في تعريف الاختلاس إلى أن التسليم الذي ينفي ركن الاختلاس في جريمة السرقة هو الذي ينقل الحيازة ، أما مجرد التسليم المادي الذي لا ينقل حيازة ما وتكون به يد المتسلم على الشيء يدا عارضة فلا ينفي الاختلاس . وذلك مفاده أن محكمة النقض تفرق بين ركني الاختلاس في جريمة السرقة وجريمة الأمانة وتضع معيارا للتفرقة بينهما تربطه بالحيازة كمبدأ أصلي وتجعل ميزاته التسليم، وفي حدود ذلك أيضا تفرق بين التسليم الذي يفيد معنى التخلي والتسليم الذي لا يفيد ذلك أي التسليم المادي الذي لا تكون يد المتسلم فيه إلا يدا عارضة.
كما أن هذه المحكمة قررت في قرار آخر أن لفظ الاختلاس معناه في المادة التي تعاقب على سرقة الأموال العمومية "تصرف الجاني في المال الذي بعهدته على اعتبار أنه مملوك له"، وهو معنى مركب من فعل مادي هو التصرف في المال ومن فعل قلبي يقترن به وهو نية إضاعة المال، فاللفظ دال بذاته على ركنين أساسيين من أركان الجريمة، الركن المادي وهو التصرف في المال وركن القصد الجنائي وهو نية إضاعة المال.
وقد قضت المحاكم المصرية بأن تسليم الأمين الشيء الذي كان في عهدته للغير يعتبر بمثابة تصرف المالك في ملكه وبه تتحقق جريمة الاختلاس (قضية عدد 1285 بتاريخ ماي 1935)، على أن نية الأمين يمكن أن تظهر بإضافة الشيء مباشرة إلى ملكه بأن يحتفظ به لنفسه أو يستعمله في غير ما أعد له.
وخلاصة القول إذن أن القضاء المصري وعلى رأسه محكمة النقض المصرية قد أخذت بالرأي الذي يضيق من معنى الاختلاس ويفرق بينه في السرقة عنه في خيانة الأمانة.
أما بالنسبة لجريمة التبديد، فيلاحظ أن التشريعات العربية التي استعملت هذا اللفظ هي التشريع اللبناني والتشريع السوري فضلا عن التشريع المصري، بمعنى أن التشريعات التي استعملت هذا اللفظ هي التشريعات التي أخذت عن التشريع الفرنسي كمصدر لها بينما استعملت التشريعات العربية الأخرى عدة ألفاظ أخرى.
ويلاحظ أن بعض التشريعات العربية قد نصت صراحة على اعتبار الأمين الذي يتلف عمدا المال المسلم إليه خائنا للأمانة، بينما لم تنص على ذلك بعض التشريعات الأخرى، وعلى ذلك يثور البحث بالنسبة لهذه التشريعات الأخيرة في حالة ما إذا اقتصر فعل الأمين على إتلاف المال المسلم إليه فهل يعتبر فعله خيانة للأمانة.
فلا شك إذن أن من يقوم بإتلاف المال المسلم إليه عمدا يعتبر نفسه سلفا مالكا له، وأن له حق التصرف المطلق فيه، ومن افترض في نفسه هذه السلطة على المال يعتبر مختلسا له. ولا ينال من هذا القول ما قد يقال من أن خائن الأمانة لابد من حصوله على فائدة من وراء اختلاسه للمال أو تبديده.
وجدير بالذكر الإشارة إلى موقف القضاء المصري من جريمة التبديد، حيث فرقت محكمة النقض المصرية في أحكامها ما بين التبديد والاختلاس، إذ صرحت أن التبديد لا يتحقق إلا باستهلاك الأمانة أو بالتصرف فيها للغير والتخلي له عن حيازتها، أما اختلاس الأمانة فإنه يتحقق بكل ما دل به الأمين على اعتباره الأمانة مملوكة له يتصرف فيها تصرف المالك فهو يقع متى غير الحائز حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة بنية التملك .
المطلب الرابع: الاختلاس والتبديد من خلال القضاء المغربي
لقد سبق المحكمة الخاصة للعدل "الملغاة" أن نظرت في قضية متهمين أحيلوا على هذه المحكمة من أجل اختلاس وتبديد أموال عمومية، بأن كان المتهم) ع.م (خلال سنتي 1998 – 1999 وهو موظف عمومي بدد مبلغ 842.787,51 درهم من الأموال العامة التي كانت تحت يده بحكم وظيفته بمشاركة الغير وباتفاق سابق بينهما ، وذلك بأن قام بتسديد 48 شيكا بنكيا يحمل المبلغ المذكور في الوقت الذي لم يقم بتسجيلها في حساب هذا الأخير ودون أية ضمانة مسبقة ، ثم قام بإخفاء تلك الشيكات عوض إرجاعها إلى مصلحة المقاصة وهو يعلم أنها لا تتوفر على الرصيد. فأدانت المحكمة هذا الأخير بجريمة تبديد أموال عامة كانت تحت يده بحكم وظيفته ومعاقبته من أجل ذلك بالحبس لمدة خمس سنوات، كما أدانت نـفـس المحكمة في نفس الملف المتهمة )خ.ق( بجريمة المشاركة في تبديد أموال عامة ومعاقبتها من أجل ذلك بالحبس ثلاث سنوات، حيث إن هذه الأخيرة ساعدت وأعانت عن علم في الجريمة المذكورة ، ذلك أنها كانت تقوم بسحب تلك المبالغ وتكليف المتهم السالف الذكر بالدفوعات وتسلم له دفتر شيكات وهي تعلم أنها لا تتوفر على رصيد .
كما أن هذه المحكمة أدانت المتهم )ح.ك( بجريمة اختلاس أموال عمومية كانت تحت يده بسبب وظيفته ومعاقبته من أجل ذلك بالسجن لمدة عشر سنوات، وهو موظف عمومي مستخدم بوكالة القرض العقاري والسياحي مكلف بمهمة الصرف ، اختلس على فترتين مبلغ 9000 درهم من الأموال العامة التي كانت تحت يده بسبب وظيفته وذلك بافتعاله توقيع الزبون )ب.ع( على شيكات الشباك وبذلك تمكن من الاستحواذ على المبلغ لفائدته بدون وجه حق .
كما أن هذه المحكمة أدانت – في ملف جمعية أرباب المطاحن- المسمى )غ.س( بجريمة التبديد والمشاركة فيها ومعاقبته بخمسة عشر (15) سنة سجنا، حيث إن هذا الأخير خلال سنة 1994 و1995عمل على تبديد أموالا عامة كانت تحت يده بسبب وظيفته على فترات بمساهمة الأغيار، وبعد اتفاق سابق معهم مبلغ 20.000,00 درهم ذلك أنه عمل على سحب المبلغ المذكور من حساب الجمعية المهنية للمطاحن بدعوى استرداد مصروف سبق له أن صرفه في إقامة حفل لفائدة المزارعين الفرنسيين ، والحال أنه يعلم أن الحفل المذكور لم يقع ولا مصلحة للجمعية المهنية في ذلك ولا يمس أغراضها.
كما أنه – أيضا- علل جناية تبديد أموال عامة كانت تحت يده بسبب وظيفته مبلغ 168.020,00 درهم بادعائه أنه عمد إلى صرف المبلغ المذكور لإعادة صباغة المعهد دون مبرر ، مع أنه لم تمر فترة طويلة على صباغته من طرف شركة أنتير بناء التي كلفت بإنجاز الصفقة .
كما أدانت هذه المحكمة كذلك في الملف عدد 1269 بتاريخ يوليوز 2000 المسماة )ن.ه( باختلاس وتبديد المال العام بصفتها مديرة وكالة القرض العقاري والسياحي بشارع محمد الخامس الدار البيضاء بأنها عمدت إلى إنشاء وتوقيع 67 كمبيالة مضمونة الأداء باسم وكالة القرض العقاري والسياحي لفائدة الغير صاحب شركة أم الربيع للاستفادة من مقابلها المادي وذلك دون ترخيص أو إذن من اللجنة المكلفة بالقروض أو علم من الإدارة المركزية وبذلك مكنت الغير من الاستيلاء على المبالغ المذكورة والتصرف فيها دون وجه حق، كما أدان نفس الحكم مدير شركة أم الربيع )م.ف( باعتباره مساهما في الاختلاس والتبديد.
وبقراءة متأنية لمضامين القرارات المذكورة يتبين الفرق الواضح بين جرائم الاختلاس والتبديد، إذ المختلس يعمل على الاستحواذ على المبالغ لفائدته بدون وجه حق كما هو الشأن بالنسبة للحكم الجنائي عدد 1493 الصادر عن المحكمة الخاصة للعدل بتاريخ 3 دجنبر 2002، بينما المبدد يعمل على صرف المبالغ المالية التي توجد تحت يده بحكم وظيفته في أغراض غير الأغراض التي رصدت لها كما هو الشأن بالنسبة للحكم الجنائي عدد 1322 الصادر عن نفس المحكمة بتاريخ 24 أبريل 2001، أو أن الأموال العمومية التي تقع تحت يد المسؤول في المؤسسة تمنح للغير دون احترام المساطر المعمول بها أو الترخيص من المصالح المختصة بذلك، كما هو الشأن في واقعة )ن.ه( و )م.ف( في ملف أم الربيع.
من خلال ما سبق، يتضح جليا بأن كلا من جرائم الاختلاس والتبديد واستغلال النفوذ لا تتحقق إلا بتحقق القصد الجنائي الذي يعتبر ركنا معنويا في كل هذه الجرائم. إذ لابد من إرادة حرة نابعة من طرف الموظف المتهم بإحدى هذه الجرائم دون إجبار من أي كان.
إن المعيار السليم للتجريم في مثل هذه الحالات يكمن في العلم والإدراك القائمين لدى الجاني بأن الأذى أو الضرر محتمل الحدوث أو راجح الوقوع عن فعله بحيث يقوم التجريم على تعمده .
وعلى هذا فمتى عمل المتهم على الاستيلاء على الشيء الموضوع تحت يده فإن جريمة الاختلاس تتحقق مهما كان عمله أو تصرفه هذا، كما أنه متى عمل على تحويل الأموال الموضوعة تحت يده بحكم وظيفته بأن صرفها في غير ما رصدت له فإنه يكون قد ارتكب جريمة التبديد.
المبحث الثاني: القصد الجنائي في الفقه الإنجليزي، الفرنسي والمصري
القصد الجنائي هو القوة النفسية التي تقف وراء النشاط المجرم الذي استهدف به الفاعل إراديا الاعتداء على مصلحة من المصالح المحمية من طرف المشرع الجنائي ، ذلك أن الجريمة التي تتحقق في الواقع بسبب نشاط الفاعل ما هي إلا نتيجة لما خالج نفسه قبل تنفيذه لها ماديا ، فالإرادة هنا تكون إرادة آثمة تطبع سلوك الجاني بالإثم فيجعل منها بالتالي سلوكا مجرما يعاقب عليه القانون.
ولا يتحقق الركن المعنوي في الجرائم العمدية إلا إذا توافر القصد الجنائي عند الفاعل، وهذا الأخير لا يتوافر إلا إذا:
1 ـ وجه الجاني نشاطه الإرادي في صورة فعل أو امتناع من أجل تحقيق واقعة مجرمة.
2 ـ كان الجاني محيطا إحاطة تامة (عالما) بحقيقة هذه الواقعة المجرمة واقعيا وقانونيا.
والقصد الجنائي فكرة جوهرها الإرادة التي اتجهت إلى مخالفة القانون، وقد كان تحديد اتجاه الإرادة وتعيين الوقائع التي يتعين انصرافها إليها محلا لآراء عديدة ومناقشات فقهية كثيرة، لذلك سنتناول دراسة هذا الخلاف الفقهي حول تحديد عناصر القصد الجنائي في مطلبين رئيسيين، نتطرق في المطلب الأول إلى القصد الجنائي في الفقه الإنجليزي، ثم نتعرض في المطلب الثاني إلى موقف الفقه الفرنسي والمصري من هذا النقاش.
المطلب الأول : القصـد الجنائـي في الفقه الإنجليزي
يعد مبدأ ألا يشكل الفعل بحد ذاته جريمة ما لم يرتكب بقصد جنائي من أهم المبادئ في القانون الإنجليزي عبر تطوره ، فهذا المبدأ يقرر وجود ركنين هامين في الجريمة: الركن المادي والركن المعنوي، إذ لا يجوز اعتبار الشخص مرتكبا لجريمة ومن ثم محلا للعقاب إلا إذا كان وقت إتيانه الفعل الضار المحضور ذا ذهن يستحق أن يؤاخذ.
إلا أن القصد الجنائي يطرح صعوبة شرح مقصوده بشكل عام لأنه يتباين من جريمة إلى أخرى، مما دفع بعض الفقهاء الإنجليز إلى التأكيد أنه مما لا طائلة وراءه السعي إلى استبانة دلالة القصد الجنائي باللجوء إلى نظرية عامة ذات تطبيق شمولي تنطبق على جميع الحالات ، إن القصد الجنائي لا يعني حالة منفردة في ذهن الفاعل يتعين إثباتها كشرط سابق التجريم ، ذلك أن القصد الجنائي أشبه بالحرباء يتلون بمختلف الألوان طبقا للظروف المتباينة .