ترتيب المخاطر الجديدة في السياسة الأمنية الأمريكية بعد الحرب الباردة
مقدمة:
سنبرز من هذه المداخلة نقطتين هامتين:
- تراتبية القيم من خلال التحالف اليهودي المسيحي لمواجهة الإسلام.
- السياسية الأمنية الأمريكية لمواجهة "الإرهاب الإسلامي"
المحور الأول: التحالف اليهودي- المسيحي في مواجهة الإسلام
نشير بداية أن القيم مفهوم مطاطي يتعلق بتضارب المصالح، وبالتالي يحاول كل طرف أن يعمم قيمه على الآخر، وينظر إليه نظرة فوقية وعدائية، وهنا ينشأ التصادم. وقد ركزت النظرية الاجتماعية النقدية* على ذلك، حيث ترى أن النظرية هي دائما لشخص ما ومن أجل هدف معين.(Theory is always for someone and for some purpose.)
وقد أشار برتران بادي في كتابه "انقلاب العالم"(1) إلى عودة المقدس إلى مسرح العلاقات الدولية، إذ يرى أنه: "ينبغي أن ينظر بعين الاعتبار إلى الأثر الناجم عن المفهوم المسيحي الذي تعتنقه النخبة عن سلوكها الخاص والذي تستمده من المأثور ومن الأساطير المؤسسة للولايات المتحدة على السياسة الخارجية الأمريكية."(2) وهو ما تجلى في خطابات سياسية تحمل مفردات ذات طابع ديني وأخلاقي، ومع وصول قوى اليمين الديني المتطرف في أمريكا إلى الحكم، تم تقسيم العالم إلى الشر والخير وهي دلالات أخلاقية قيمية.
لكن هل فعلا استبعد الدين عن العلاقات الدولية؟
ذهب الكاتب الفرنسي أندري فروسارAndré Frossard إلى إن "القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا دينيا بإمتياز"(3). والعودة القوية للظاهرة الدينية لا يمكن النظر إليها كبعد ظرفي شاذ قابل للتراجع في كل لحظة، بل هذه الصحوة الدينية نابعة من صميم الواقع التاريخي الإنساني، ذلك أن الدين ظاهرة ملازمة للوجود الإنساني ووجوده حاسم في الثقافات والحضارات والانعطافات التاريخية الكبرى.
وحسب ألفين وهايدي توفلر فإن التأثير المتزايد للأديان العالمية من الإسلام وحتى الأرثوذكسية الروسية، مرورا بطوائف العصر الجديدة المتكاثرة بسرعة ليست بحاجة إلى توثيق، فالكل سيكون لاعبا أساسيا في النظام العالمي للقرن الحادي والعشرين.(4)
فالشخص يمكن أن يكون نصف فرنسي ونصف جزائري، ولكن من الصعب جدا أن يكون نصف مسلم ونصف مسيحي. وعليه في الصراعات الثقافية يطرح السؤال: "من أنت؟" بدلا من "مع أي طرف أنت؟". فكما يرى تيموثي جارتون آش أن: "الهوية بالأساس، تحديد للذات، لكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار كذلك ما يراه الآخر."(5) فتركيا ترى نفسها أوروبية، إلا أن أغلب دول الاتحاد الأوروبي لا يراها كذلك، فهي دولة من الشرق الأوسط أو من آسيا، بينما الجميع يرى أن بريطانيا أوروبية، إلا إنها ترى نفسها أطلسية.
وقد بدأ الحديث لدى أوساط العلاقات الدولية، والعدد من الإستراتيجيين عن العامل الديني بوصفه أحد أقوى التأثيرات المحركة للشعوب وللصراعات، خاصة في المناطق الجيو إستراتيجية الحساسة (الشرق الأوسط، البلقان، وآسيا الوسطى، وشمال وجنوب البحر المتوسط).
ويجادل المفكرون الغربيون حول الأفكار، التي ترى أن العالم قد يتوحد يوما ويلتقي على مجموعة مشتركة من القيم، في حين كشفت أحداث 11 سبتمبر التناقضات الكثيرة، ولكن هناك اتفاق واسع النطاق بين أناس ينتمون إلى ديانات مختلفة، وآخرين لا يدينون بأي ديانة حول رفض الإرهاب باعتباره أداة سياسية. ومن الخطأ أيضا تسمية "الغرب" وما يسمى "البقية".
وفي نظر فرنسيس فوكاياما أن الديمقراطية واجهت تحديين: الفاشية بمختلف أشكالها والشيوعية. وكان الانتصار الأخير لصالح الديمقراطية الليبرالية. أما التحدي الذي بقي أمامها فهو الإسلام. لذا تم الاتفاق الضمني لمواجهته من خلال:
اختراق مقومات الهوية العربية - الإسلامية وطمسها.
تطويق المنطقة العربية - الإسلامية واحتوائها.
دمج إسرائيل لتحقيق أمنه.
فقد جاء في كتاب باسكال بونيفاس "الحرب العالمية الرابعة" إن: "تجسيد الخطر الإسلامي مر بمراحل، فمن (خطر الجنوب)، ثم وصف العالم الإسلامي، قبل أن يتم تصحيح التسمية والاتجاه نحو تجريم "الحركة الإسلامية المتطرفة"، ثم أخيرا "الإرهاب الإسلامي"، وعليه يجب على الغرب التوحد تحت القيادة الأمريكية."(6)
ويعتقد هنتغتون أن للحضارة طبيعة جوهرية موضوعية بوصفها أرقى أشكال التعبير عن الهوية، ولكل كيان حضاري خصائصه الجوهرية الثابتة التي تجعله متميزا عن الكيانات الثقافية الأخرى. والدين يشكل قوة مركزية تحرك الناس وتحشدهم، لذلك يمكن تعريفها إلى حد كبير من خلال الدين الذي هو العلامة الفارقة للتمييز بين الحضارات.
وهنا نلاحظ أنه لا يضيف الجديد، فقد أشار ابن خلدون إلى الوازع الديني في إنشاء الدولة، أو ما يسميه المفكر الجزائري مالك بن نبي المركب الحضاري الذي هو الدين في إنشاء الحضارة. وعليه يقسم العالم إلى ثماني مجموعات حضارية: الحضارة الغربية، الأمريكية اللاتينية، الإسلامية، الصينية الكونفوشيوسية، اليابانية، الهندية، السلافية الأرثوذوكسية، وربما الإفريقية. ويميز داخل الحضارة الإسلامية بين مجموعة من الحضارات الفرعية هي: العربية، التركية، الفارسية، والماليزية.
ولعل اتهام الإسلام بالإرهاب تعبير واضح عن الهجمة العدوانية للغرب. فإصدار هنتغتون أحكاما قيمية متسرعة حول الإسلام، ماهو إلا فهم سطحي لهذا الدين، وتعبير عن حقد دفين يهودي، حيث روج لفكرة خطيرة مفادها أن للإسلام "حدود دموية"، وهنا كان استغراب عبد الله العروي* منطقي، حيث يقول: "كيف يمكن الانطلاق من مفهوم غامض لبناء تحليلات سياسية يقول أنها وصفية مطابقة للواقع."(7) وجاء كتابه عبارة عن أحكام مسبقة مستهلكة من طرف وسائل الإعلام، من خلال مايلي:
يدعي هنتغتون بأن الحرب الباردة الجديدة هي بين الإسلام والغرب، حيث يرى أن: "الإسلام هو أكثر الأديان صرامة خارج العالم المسيحي، كذلك هناك شعور عام لدى المسلمين بأن الغرب قد قهرهم واستغلهم لفترة طويلة. وهنا نبدي ملاحظة أن الإسلام دلالة دينية وحضارية، والغرب دلالة جغرافية، وعليه ما يجري حاليا هو توحيد الغرب الجغرافي في إطار تحالف ديني مسيحي- يهودي. ويقع في خلط كبير بين الحركات التحررية ضد الاستعمار وبين الحروب المقدسة، والأحداث الدموية التي جرت في يوغسلافيا لم يقم بها المسلمون، وإنما انتهكت ضدهم، أما بالنسبة للشرق الأوسط، فهم في موقع دفاعي وليس هجومي كما يروج له.
يدعي أن الثقافة الإسلامية كانت عاملا أساسيا في فشل الأنظمة الديمقراطية في معظم دول العالم الإسلامي. وهذا فهم سطحي للإسلام الذي أساسه الديمقراطية والمساواة والعدل، كما أنه لا يوجد أية دولة في الوقت الحالي تطبق الإسلام في الحكم، وإنما هي أنظمة تقلد الغرب.
في نظره أن لدى المسلمين صعوبة في التعايش مع جيرانهم، وهم ينزعون إلى عدم الاندماج بسهولة في المجتمعات المختلفة عنهم. وهذا لا يطابق الحقيقة، فالغرب لم يحاول الاندماج مع الآخرين، بل حاول فرض قيمه ومعتقداته على الآخرين، وغالبا ما يتم الاعتداء على المسلمين من الدول الغربية.
يذهب أن الإسلام دين دموي عنيف، متناسيا اليهودية التي تقوم على مذهب يوشع بن نون* للعنف والتوسع. ومع تفحص للأسفار الخمسة للتوراة، نجد الأكثر دعوة للدموية والعنف سفر التثنية، وسفر العدد، وسفر يوشع بن نون أول من أرسى التقاليد العسكرية الإسرائيلية المرتكزة على العنف والتوسع، وعليه يذهب دفيد بن غوريون ** David Ben Gourion بالقول إنه يعتبر يوشع بطل التوراة، فإنه لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان المرشد، لأنه توصل إلى توحيد قبائل الصحراء.(
وبالنظر إلى السلوك الأمريكي، من خلال إستراتيجية محاربة الطغيان لسنة 2005م، التي ترتبط على المستوى التطبيقي بالعالم الإسلامي والشرق الأوسط، ومتابعة المسؤولين الأمريكيين تشير إلى تركز حالة الطغيان بالدول العربية والإسلامية بالأساس. وغالبية أنظمة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ينطبق عليها أحد الأوصاف الثلاثة: إرهابية، أو راعية الإرهاب، أو طاغية.
وعليه سيخضع العالم الإسلامي لرؤيتين هما: مواجهة الإرهاب ومواجهة الطغيان، وستكون العلاقة بينهما في حالة ديناميكية دائمة، حيث سيتم استغلال حالة الضعف في دول الطغيان من أجل إحكام الخناق على دول الإرهاب واستخدام الحلفاء من أجل تطويق الأعداء.
السياسة الأمنية الأمريكية لمواجهة "الإرهاب الإسلامي"
أهم ما يميز السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ما عبر عنه زكي العايدي "بفقدان المعنى" أو ما عبر عنه بيتر ماكغرات "بفقدان الهدف" The loss of mission وما ذهب إليه رالف بيترز Ralph Peters في مقاله "أعداؤنا الجدد القدامى" حيث يرى أن العدو وحده هو الذي يحدد المعنى لحياتنا وبه أيضا نطور قدراتنا العسكرية. ويرى أنه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي تفتقر الولايات المتحدة إلى عدو، ويجب طرح السؤال العسكري الرئيسي "من هو عدونا؟"**. فغياب الخصم طرح إشكاليات مهمة مما عبر عنه لستر ثارو بأن "أي انتصار مفاجئ غير منتظر يخلق مشاكل نفسية للمنتصر" ويمكن إجمالها في نقطتين:
1- عدم القدرة على تحديد ما يمكن اعتباره تهديدا خطيرا للمصلحة القومية الأمريكية وبالتالي النظام الدولي.
2- مبدأ "النظام" لا يتمتع بتأثير كبير في الرأي العام الأمريكي نظرا لعدم وضوح الرؤية حول هدف "الأمة" الأمريكية ككل وغايتها.
وهنا نتساءل عن "ما هو الغرب الإستراتيجي" بعد أن زال الشرق الذي كان يعطيه معناه السياسي؟ وهل يعتبر كل من اليابان وروسيا جزءا من الغرب الأطلسي؟ فتحديد هوية الغرب انطلاقا من عداوته للشرق أصبح أمرا مستحيلا في الوقت الحالي، رغم أن الولايات المتحدة حاولت خلق العدو الجديد تارة بالمنافس الاقتصادي وبالتالي تصبح مقولة "لا عدو دائم ولا صديق دائم بل مصلحة دائمة" صالحة على اليابان والاتحاد الأوروبي الحلفين السياسيين للولايات المتحدة.
ورغم الزخم الهائل من الكتب التي تشير إلى العدو الجديد، فإن ذلك لن يجيب عن مطلب الهوية بالنسبة للمجتمع الغربي الذي فقد الرؤية الإيديولوجية وبالتالي فقد المعنى، ولعل التحالف البروتستانتي الصهيوني هو محاولة لوضع الإسلام عدوا خارجيا، ومحاولة أمريكية لتجديد التحالف الأمريكي – الأوروبي في إطار محاربة "الإرهاب"***.
ويرى كارتر أشتون وويليام بيري** بأن مع انتهاء الحرب الباردة أصبح من الضروري على الولايات المتحدة إعادة التفكير فيما يتعرض له الأمن الأمريكي من مخاطر. ويمكن إعادة ترتيب هذه المخاطر ترتيبا نزوليا من أشدها خطرا إلى أقلها خطرا. فعلى رأس الترتيب توجد القائمة (أ) وتشمل المخاطر التي تهدد الوجود الأمريكي من النوع الذي كان يشكله الاتحاد السوفيتي سابقا، هذه القائمة خالية مع وضع روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي بين قوسين بصفة مؤقتة. القائمة (ب) هي التهديدات القائمة على المصالح الأمريكية ولكنها لا تهدد وجود أمريكا أو طريقة الحياة الأمريكية (وهي كل دول محور الشر وعلى رأسها إيران). القائمة (ج) من الأخطار التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، ولكنها لا تؤثر في أمن الولايات المتحدة تأثيرا مباشرا، ولا تهدد المصالح الأمريكية تهديدا مباشرا. والإستراتيجية الوقائية هي إستراتيجية دفاعية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين.
وخلو القائمة (أ) يحدث شيئا من الارتباك لدى الأمريكيين الذين حققوا انتقالية ضخمة بالتحول من دحر العدوان إلى ردع العدوان بعد الحرب العالمية الثانية، وعليه تحاول الولايات المتحدة إقناع حلفائها بضرورة اهتمامها بالقائمة (ب) بمساندة أوروبية بغير شروط، وتدخلها مباشرة دون استشارتهم، وهذا ما لا تقبله الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، واهتمام أوروبا بالقائمة (ج) يرجع لما لها من قدرات دبلوماسية لحل هذا النوع من النزاعات.
وبما أن القائمة (ج) لا تهدد المصالح الأمريكية ولا الوجود الأمريكي فهي أقل أهمية، وأي تدخل أمريكي سيكلفها أموال ووقتا على حد قول لستر ثارو في كتابه "مستقبل الرأسمالية": "إنه في عالم تحكمه التكتلات الاقتصادية لا أحد يضم في صفه الخاسرين؛ وأقصد به إفريقيا جنوب الصحراء"، وليس بأهمية القائمة (ب) التي يوجد على رأسها الشرق الأوسط، فإن معظم النزاعات في القائمة (ج) من حصة أوروبا.
وفي كل المراكز والمنتديات التي تهتم بقضايا الأمن، هناك الحديث عن خطر الجنوب كبديل لخطر لم يأت من الشرق، كما لو كان الأمر مجرد إعادة توجيه جغرافي للخطر، يسمح بالإبقاء على إطار التحليل ومرجع استراتيجي تقريبا متطابق مع الخطر السابق.
وإذا كان فرنسيس فوكاياما يقلل من أهمية أحداث 11 سبتمبر 2001م، إذ يعتبر الهجمات حركة ارتدادية يائسة ضد العالم الحديث، فإنه يلفت النظر إلى الحاجة الملحة للنظر إلى التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة.
وما يميز هجمات 11 سبتمبر أنها كانت على الأرض التي لم تتعرض لهجوم منذ استقلالها النهائي سنة 1815م، وافتقاد الولايات المتحدة بعد انتصارها على الاتحاد السوفيتي لعدو خارجي للاستمرار، وبالتالي أصبح التركيز على محاربة الإرهاب، وعليه فقد وضع "الإرهاب" في المرتبة نفسها التي كانت للاتحاد السوفيتي والشيوعية.
ويرى هنري كيسنجر أن: "الهجمات يمكن أن تحول إلى صياغة النظام العالمي للولايات المتحدة، ودفعت القوى المنافسة مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا والصين والهند إلى التعاون بصورة وثيقة مع الولايات المتحدة، وهي مسألة لم تكن متوقعة قبل تلك الهجمات بسبب الخلافات السياسية القائمة بين الولايات المتحدة وتلك القوى الدولية بصورة منفردة، مما أدى إلى بناء علاقات شراكة جديدة بين الجانبين، كما خلق ذلك أجواء جديدة للعلاقات الدولية".(9)
ويرى كيسنجر أنه: "لأول مرة منذ نصف قرن أدى هذا الوضع إلى عدم مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية خصما إستراتيجيا أو أي بلد وحيد أو متحالف، يستطيع أن يصبح كذلك خلال العقد المقبل"(10). كما أن هذه الدول الكبرى لم تعد تنظر إلى بعضها، على أنها تشكل تهديدات إستراتيجية، بل أصبحوا يرون أن الخطر الذي يتعرضون له جميعا لا يأتي عبر الحدود، وإنما من الخلايا الإرهابية المزروعة داخل بلدانهم. وهذا في حد ذاته تحول في الإستراتيجية الأمريكية التي كانت تميل إلى الانفرادية، وتسود علاقتها مع الدول الأوروبية بالتوتر بسبب برنامج الدرع الصاروخي، وبرتوكول كيوتو للبيئة.
كما سمحت الأحداث بإيقاظ الوطنية الأمريكية وأعطت الفرصة للمحافظين الجدد لفرض سياستها التوسعية وشن حرب غير مباشرة على المؤسسات الدولية (ماعدا التجارية والمالية) بقصر آلياتها لمحاربة العدو الجديد مجهول الهوية (الإرهاب) والدول المارقة ومنع وقوع أسلحة الدمار الشامل في يد "الأشرار" وتحديدها في محور سمته "الشر"، تصنيفا أخلاقيا للعلاقات الدولية (الشر والخير)* ، ثم حددت من الخير في تصنيف مهمته محاربة الإرهاب "رسالة إلهية" وهنا ربط ثان للسياسة بالدين، وعليه يصنف الإرهاب أيضا في التصنيف الثاني تصنيفا للدين وهو "الإسلام".**
إن دعوة الولايات المتحدة لإقامة تحالف دولي ضد "الإرهاب" تشمل معظم دول العالم ممثلة في دول الحلف الأطلسي، ودول الشرق الأوسط، ودول آسيوية، فشعار " من ليس معنا فهو ضدنا" هو تحالف ضد مجهول. وقد استغلت روسيا هذه الأحداث لحسابها، خاصة اتجاه ألمانيا وأوروبا اللتين فهمتا طبيعة الحرب الروسية –الشيشانية.
وقد أوضح لفاروف الخطوط العريضة لسياسة روسيا في عهد بوتين حيث يرى أن "دمقرطة" العلاقات الدولية ضرورية وحتى تكون الديمقراطية قيمة عالمية يجب أن تحقق بطريقة مختلفة في كل دولة حسب الثقافة والتقاليد الوطنية.
كما أن الإرهاب ليس له جنسية ولا ديانة، لذا ترفض روسيا استعمال مصطلح "الإرهاب الإسلامي" لأنه حسب وزير خارجيتها أوروبا لها تاريخ غني ومعقد مع العالم الإسلامي ويجب أن لا تخضع لهذه الفكرة المغلقة.
وفي هذا الصدد تتفق روسيا وألمانيا في التحديد والتعريف "للنظام الدولي الجديد" الأكثر عدلا وأمانا، وهما حليفان في مكافحة الإرهاب، روسيا باعتبارها دولة متعددة القوميات والديانات، وألمانيا يعيش فيها عدد كبير من الجالية الإسلامية، وهذا يستدعي حوار الحضارات.(11)
فالرسالة الإلهية حددها بوش في نصر "المسيحية الصهيونية" في مواجهة "الإرهاب الإسلامي"، وصفها صامويل هنتغتون قبله بصراع الحضارات.
فبعد 11 سبتمبر وجدت الحاجة الأمريكية إلى سياسة أمنية جديدة من خلال تقنين ثلاث وثائق نشرت في عام 2002م وهي "إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" و"الإستراتيجية القومية لأمن الوطن" و"الإستراتيجية القومية لمكافحة أسلحة الدمار الشامل".
وتمركز التفكير حول كيف يمكن للولايات المتحدة أولا استخدام القوة لهزيمة الإرهابيين والأنظمة التي ترعاهم؟ وثانيا حول سبل تكييف القوات الأمريكية لتمكينها من تنفيذ عمليات استخدام القوة المطلوبة.
ويرى جيمس روزنو ويال فرغسون بأن أحداث 11 سبتمبر 2001م لم تغير جوهريا بنى السياسة العالمية وقاعدتها، رغم عالمية الإرهاب التي يمكن أن تفسر على أنها تحول براديغمي، إذ إن الإرهاب يتعدى الفوضى بين الدول القومية، والقوة العظمى الأمريكية في إطار الواقعية غير المؤهلة لمواجهة الفوضى الجديدة.
ويكمن الحلم الأمريكي في المحافظة على سلاحها النووي بإقامة درع صاروخي (حاجز أمني ونظام مضاد للصواريخ). إنما هو في حقيقته يعزز القوة العسكرية الأمريكية المعبرة عن هيمنتها على العالم، وبحثها عن دفاع بلا حدود يضمن أمنها وسلامة أراضيها ولا تهم سلامة أصدقائها وأمنها.(12)
ولا تعني الولايات المتحدة بالدرع الصاروخي التخلي أو تعويض الردع النووي، ولكن تعزيزه واستكماله من مجرد قوات ردعية إلى دفاع شامل وكامل، وعليه منع أي هجوم بلاستيكي خارجي محتمل. فقبل الحرب الباردة كان الخوف من صواريخ سوفيتية، أما الآن فيمكن أن تكون صواريخ عابرة للقارات من "الدول المارقة" أو "محور الشر"، وبعد سنوات أكيد من الصين أو روسيا أو إيران محور اهتمام الولايات المتحدة، أو ربما كان الهدف الحقيقي الخفي لمشروع الدرع الصاروخي.(13)
فشن الحرب على الإرهاب لا يقتصر على الاكتفاء شنها على منفذي الهجمات ضد الولايات المتحدة، وأن يكون نطاق العمليات العسكرية محدودا بأفغانستان فحسب، بل بشنها على الإرهابيين ورعاتهم في مختلف أنحاء العالم.
وحسب ديك تشيني بأنه "سينظر إلى أي نظام يأوي إرهابيين أو يدعمهم على أنه معاد للولايات المتحدة". كما أعلن الرئيس بوش جنيور في جانفي 2002م أن "على جميع الأمم أن تعلم: أن أمريكا ستفعل كل ما هو ضروري لضمان أمنها، فلن تسمح الولايات المتحدة لأخطر الأنظمة في العالم بتهديدنا بأكثر الأسلحة تدميرا(14).
فامتلاك قدرات عسكرية معينة يمكن أن يبرر مهاجمة أصحابها، حيث يتم الإجابة عن السؤال التالي: "ما هي الإجراءات التي يتعين على دولة ما أو مجموعة من الدول اتخاذها، إذا علمت من مصدر موثوق بأن عددا من البلدان التي لديها نيات عدوانية تجاهها وتجاه الدول المجاورة لها تسير حثيثا نحو امتلاك أسلحة الدمار الشامل؟"
والإجابة عن هذا السؤال موجودة في ما تسميه " إستراتيجية أسلحة الأمن القومي الجديدة "الحرب الاستباقية"، أي استخدام القوة استباقا لخطر امتلاك دول معادية أو مجموعة إرهابية أسلحة الدمار الشامل.
وهذه الوثيقة تعلن أنه: "على مدى قرون اعترف القانون الدولي بأنه لا يفترض أن تواجه أي أمة هجوما قبل أن يتاح لها قانونيا اتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن نفسها في مواجهة القوى، التي تمثل بالنسبة إليها مصدر خطر هجوم وشيك... علينا أن نكيف مفهوم التهديد المباشر مع قدرات خصوم اليوم وأهدافهم." وهو توسيع مفهوم الاستباق التقليدي ليتضمن "الحرب الوقائية" والتي يمكن بموجبها استخدام القوة حتى في حال عدم وجود دليل على وقوع هجوم، لضمان عدم تنامي أي تهديد جدي للولايات المتحدة من أسلحة الدمار الشامل مع الوقت. والولايات المتحدة غير مستعدة للاعتماد حصريا على مقاربات غير عسكرية لمسألة تقليص التهديدات أو إزالتها دون استبعاد استعمالها."
ومن "وجهة إستراتيجية ومن مبدأ الحذر" الاستمرار في تطوير صورايخ الدفاع وبمقاربة "منع أي خطر سياسي واستراتيجي لأسلحة الدمار الشامل" تطويرها في الاتجاه "الهجومي" ضد أي من له رأي مخالف. فالدرع الصاروخي ينتقل من "الردع" إلى "الفعل الوقائي" أو كما سماه كارتر أشتون "الدفاع الوقائي" لتطوير مذهب الحرب" الوقائية Préventive " والحرب الاستباقية Préemptive" لإدارة بوش جنيور.
وفي هذا الإطار تستعمل الصواريخ المضادة أداة أمريكية لضرب (العراق، إيران، الصين أو ..؟..) دون خوف من أي انتقام خطير، لأن الدرع الصاروخي سيكون مركز سيناريو التدمير المتبادل المؤكد The Mutual Assured Destruction ( MAD) أو توازن القوى الذي يمنع أي هجوم استباقي يتبع بضربة ثانية أكثر خطورة ودمارا، بينما التدمير الأحادي المؤكد Unilateral Assured Destruction (UAD) هو تكملة ضرورية "للبحث عن القوات العسكرية" أي قدرة الولايات المتحدة للعودة إلى المعركة على أرض العدو دون أن تعرض أراضيها للمساومة، لأنها حرب هجومية وقائية أو استباقية دون أي منازع أو منافس.
والهدف الرئيسي للمراجعة هو تحويل أساس التخطيط الدفاعي من "النموذج القائم على التهديد Threat based model"، الذي سيطر على التفكير العسكري في الماضي إلى "النموذج القائم على القدرات Capabilities based model" إلى المستقبل. ويركز النموذج الأخير بدرجة أكبر على كيف يمكن محاربة العدو، بدلا من تركيزه على من يفترض أن يكون مثل هذا العدو أو أين يمكن أن تقع الحرب.
أي التحول من القدرة على الردع على قاعدة "مقاس واحد يناسب الجميع في عصر الحرب الباردة، إلى الردع المفصل على مقاس القوى المارقة وشبكات الإرهاب، ومن الاستجابة بعد نشوب الأزمة (رد الفعل) إلى الأعمال الوقائية، ومن التخطيط في وقت السلم إلى التخطيط سريع التكيف، ومن التركيز على الحركات إلى التركيز على الآثار."(15) وقد شكل مبدأ "الحرب الاستباقية أو الاجهاضية جوهر وصلب إستراتيجية الأمن القومي 2002م، وهو المبدأ الرئيس الذي يشير بقاؤه أو اختفاؤه إلى استمرار أو تغيير للإستراتيجية.
وفي محاضرة بمجلس العلاقات الخارجية في 25 سبتمبر 2003م، تحدث جوزيف ناي عن أمرين: أحدهما هو الطريقة التي قدمت بها إدارة بوش جنيور الاستباق Pre- emption* ليصبح عقيدة، فالاستباق هو حقيقة في الحياة الدولية، وليس شيئا جديدا استحدثته هذه الإدارة، ولكن ما فعلته الإدارة الأمريكية هو أنها وسعت الاستباق الذي يعني تهديدا وشيكا ليشمل الإجهاض **Prevention الذي يعني التعامل مع تهديد قد لا يكون وشيكا تماما، ولكنه جاد، ولا تريد أن تنتظر حتى يصبح واقعا.
ورغم أن جوزيف ناي يؤكد أن هناك أسبابا لذلك، فإنه انتقد خلط الإدارة بين الاستباق والإجهاض، وهو ما يمثل -حسب ناي- صدعا استراتيجيا حقيقيا.(16)
وميز جون لويس جاديس في مقال له بين الاستباق والإجهاض على أساس أن الاستباق يعني القيام بعمل عسكري ضد دولة على وشك شن هجوم، وهو أمر يسمح به القانون الدولي والممارسة من أجل إحباط الأخطار الواضحة.
أما الإجهاض فيعني بدء الحرب ضد دولة قد تفرض مثل هذه الأخطار عند مرحلة مستقبلية محددة، ودعا جاديس إدارة بوش جنيور إلى إرضاء الآخرين واستشارتهم وإقناعهم قبل العمل الاستباقي، مؤكدا أنه حتى يمكن تدعيم النفوذ فإن ذلك لا يستلزم القوة فقط ولكن أيضا غياب المقاومة.(17)
والسؤال الذي طرحه فرنسيس فوكوياما يدور حول فيما إذا كانت عقيدة بوش ستطبق ثانية في المستقبل، ولكن الأهم هل بإمكان الولايات المتحدة مستعدة للتدخل ثانية انفراديا لإسقاط النظام في دولة مارقة تنشر السلاح النووي، وأن تنجح ثانية في ممارسة بناء الدولة الأمة؟(18)
وقد دعا كولن بأول في 14 ماي 2002م أعضاء الحلف الأطلسي إلى العمل مع بعض لتحديث الجهاز العسكري للحلف الأطلسي لمواجهة الظاهرة الخطيرة الجديدة وتبني إجراءات جديدة لمكافحة الإرهاب بزيادة ميزانية الحلف ابتداء من الولايات المتحدة، التي تمتلك ميزانية دفاع مهمة جدا للحلف. وضرورة عقلانية المصاريف الموجهة للدفاع، وعلى الجميع العمل على تحديث الجهاز العسكري، وهذا يعكس التخوف الكبير التي تحدثه الفجوة الكبيرة بين القوات العسكرية الأمريكية والقوات الأوروبية داخل الحلف.
وذهب السكرتير العام للحلف روبرتسن Robertson إلى الاتجاه نفسه، حيث أشار إلى ضرورة تحديث الجهاز العسكري للحلف لمواجهة الإرهاب وإلا سيكون مهمشا. وعلى الحلف أن يتغير جذريا ليكون أكثر فاعلية في البيئة الأمنية الجديدة، خاصة بعد الهجمات الحديثة Moyens de Transport Stratégiques et des Capacités de Frappe Moderne.
فإستراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2002م لم تكن محددة جغرافيا أو زمنيا أو سياسيا، فمن الناحية الجغرافية تم إعداد إستراتيجية الأمن القومي إزاء ظرف دولي وأمريكي للتعامل مع خطر برز من منطقة العالم العربي والإسلامي، على أساس أن كل الفاعلين في الهجمات من دول عربية، ولكنها لم تعلن استهداف العالم العربي والإسلامي فحسب، فقد تضمنت الإستراتيجية مجموعة من المبادئ لتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية وسياسات الأمن القومي على مستوى العالم ككل. وأكد رامسفيلد على أهمية التأثير في الأحداث لخلق بيئة إستراتيجية مواتية، قبل أن تصبح التحديات الخارجية أكثر خطرا، وضرورة تصميم إستراتيجية تقوم على توقع المفاجآت والاستعداد للتعامل مع أوضاع عدم اليقين الإستراتيجي.
وعليه قامت إستراتيجية الدفاع القومي الأمريكية لسنة 2005م على أربع نقاط إرشادية تشكل التخطيط الإستراتيجي، وصنع القرار الأمريكي وهي:
• الدفاع النشط والتراتبي Layard، بمعنى تركيز التخطيط العسكري والعمليات والقدرات الدفاعية على الدفاع النشط والاستباقي Forward والتراتبي للمصالح والشركاء.
• التحول المستمر، بمعنى التكيف باستمرار على الاقتراب من التحديات ومواجهتها والعمل مع الآخرين.
• المنهج القائم على القدرات Capabilities Based approach للتعاطي مع التحديات الظاهرة، وترتيب التحديات والقدرات التنافسية.
• إدارة الأخطار، بمعنى الأخذ في الاعتبار المدى الكامل للأخطار وربطها مع الموارد والعمليات.
ومع مجيء كوندوليزا رايس تغير مفهوم "محاربة الإرهاب" إلى "محاربة الطغيان"، الذي يعطي الإدارة الأمريكية فرصة أكبر للتحرك الخارجي ضد أنظمة قمعية استبدادية لنشر الحرية في العالم، لأهميته الوظيفية والمصلحية على أساس أمن الولايات المتحدة، الذي يعتمد على القضاء على الطغيان ونشر المبادئ الأمريكية.
وعليه فالأنظمة التي لا يمكن وصفها بالإرهابية أو مارقة يمكن أن توصف بالطاغية والاستبدادية. كما أن مفهوم محاربة الطغيان يوسع خيارات الإدارة الأمريكية، بينما الدول المارقة مقصورا على أربع دول، ارتبط الإرهاب بالشبكات الإرهابية وبنظامين محددين (العراق وأفغانستان) أو الدول الراعية للإرهاب (إيران والسودان)، فإن مفهوم الطغيان يتضمن دولا وصفت بأنها صديقة وحليفة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ال