صدر مؤخراً عن " المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية " في رام الله كتاب "الصحافة والإعلام في إسرائيل" للدكتور أمل جمال.
يرى الكاتب أن الحركة الصهيونية إلى جانب كونها حركة أيديولوجية قومية فإنها حركة إعلامية تستخدم الإعلام ليس فقط كآلية لدعم مواقفها، وإنما كهدف بحد ذاته من أجل نقل الصراع الدائر على الأرض إلى صراع خطابي يُستوعب فيه الواقع، وتُعالج بحسبه المعايير لمحاكمة الواقع، فقد حاولت المؤسسة الصهيونية ومن بعد ذلك دولة (إسرائيل) استخدام الإعلام لمصالحها على جميع المستويات، وكان الأبرز فيها تطور الصحف العبرية ما قبل إقامة الدولة التي لعبت دوراً مهماً في التحدث باسم الحركة الصهيونية، كما فعلت صحيفة (دافار) منذ تأسيسها عام 1925، وعملت الحركة الصهيونية على تأسيس صحف باللغة العربية منذ سنوات العشرينيات للقرن العشرين للوصول إلى القراء العرب في فلسطين وخارجها، كما عمل الكثيرون من السياسيين الصهاينة على اختراق الصحف العربية في العالم العربي من أجل عرض وجهة النظر الصهيونية للقارئ العربي.
وحول الصحافة المكتوبة يبين الكتاب أنه تصدر في (إسرائيل) صحف يومية باللغة العبرية، وبلغات أخرى كالروسية والإنجليزية والعربية، وإضافة إلى الصحف اليومية هناك شبكة كبيرة من الصحف الأسبوعية والشهرية، كما توجد مجلات دورية شبه محترفة تصدر عدة مرات سنوياً، ويشير الرواج الواسع نسبياً للصحافة العبرية، ومعظم الصحافة المكتوبة بلغات أخرى إلى مستوى عالٍ من الاستهلاك الإعلامي يميز المجتمع الإسرائيلي.
ويقول الكتاب: إنه -وبحسب استطلاع لمركز (هرتسوغ) للإعلام والمجتمع والسياسة في شهر آذار 2003- فإن 40 % من الإسرائيليين يقرؤون صحيفة يومية بشكل يومي ، و15 % فقط لا يقرؤون صحيفة بتاتاً، مما يدل على أن فئة واسعة من المجتمع الإسرائيلي تقرأ الصحف يومياً، ولو بشكل غير يومي، والمستهلك الإعلامي المتوسط في المجتمع الإسرائيلي يقضي من نصف ساعة إلى ساعة في قراءة الصحف يومياً، وبحسب الاستطلاع ذاته فإن نسبة مستهلكي الإعلام المرئي والمسموع أعلى بكثير؛ إذ إن 65% من الإسرائيليين يشاهدون الأخبار في التلفاز بشكل يومي ، و40% يستمعون للأخبار في الإذاعة عدة مرات في اليوم، وحسب المؤلف قد يكون مستوى المعيشة العالي إلى جانب المستوى الثقافي المرتفع للجمهور الإسرائيلي من أهم أسباب الاستهلاك الإعلامي المرتفع.
ويوضح أن الإعلام الإسرائيلي يمر بتحوّلات عميقة تتعلق بتطورات واسعة، كالخصخصة واللبرلة الاقتصادية، والدمقرطة السياسية، وتفككك الهيمنة الاجتماعية والأيديولوجية للفكر الجماعي الذي اعتمده المجتمع اليهودي منذ بداية الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، موضحاً أن التعددية في الإنتاج والبث التلفازي وتوفُّر نماذج اجتماعية وثقافية متنوعة على شاشات التلفازات الإسرائيلية بعيدة كل البعد عن المخيلة الاجتماعية التي حاول الأب الروحي والعملي لدولة (إسرائيل) (بن غوريون) بناء عمادها خلال فترة هيمنته على السياسة الإسرائيلية منذ سنوات الثلاثينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين.
ويعتبر د . جمال أن هذا التحول يعكس سقوط نماذج فرن الصهر الثقافي في الدولة العبرية، وتصاعد هيمنة رأس المال الذي يرى في الإعلام مصدر ربح يمكنه استغلال الدمج بين الأيديولوجية القومية التعبوية، من جهة، والثقافة الترفيهية، من جهة أخرى، من أجل تعميق تحكمه بآليات سوق الاستهلاك الإعلامي، وضمان الانصياع السياسي في الوقت نفسه.
ويشير الكتاب إلى أن دخول أصحاب الصحف العبرية اليومية الخاصة مثل (يديعوت أحرونوت) و(هارتس) التي كانت قائمة منذ ما قبل قيام دولة (إسرائيل)، إلى مجال البث التلفازي التجاري والكوابل والإنترنت يعكس محاولة هذه الصحف ملائمة نفسها للسوق المتغيرة؛ إذ برزت الحاجة إلى الصمود أمام التحديات الجديدة التي نبعت من تطور تكنولوجيا الإعلام، وتطور منافسين إعلاميين جدد دخلوا سوق الإعلام في سنوات التسعين من القرن الماضي كمجال يدرّ الربح العالي بأثمان ليست بعالية.
ويرى المؤلف أن التغير في مبنى الإعلام وكمية القنوات الإعلامية الإلكترونية، وتعدد المالكين يعكس ازدياد حدة التنافس في مجال الصحافة والإعلام في (إسرائيل)، وتزايد تأثيرهما في الواقع الاجتماعي والسياسي. معتبراً أن هذا التطور في الإنتاج الإعلامي، خصوصاً التلفازي يبرز مقولة باحث الإعلام الأمريكي جون فيسك: إن الإعلام هو آلية هيمنة تتحكم بواسطة توفير "تسلية حتى الموت".
ويرى الكتاب أن الإعلام الإسرائيلي تعددي، فهناك مؤسسات إعلامية كثيرة تنشر وتبث ما يحلو لكل مشاهد تقريباً، ومن وجهات نظر مختلفة، وعلى الرغم من ذلك فإنه تحت سيطرة قوتين اجتماعيتين أساسيتين: القوة الأولى هي نخبة أصحاب رؤوس الأموال قليلة العدد، والتي تنحصر في مجموعة من العائلات القليلة وشركائها، أما القوة الثانية فهي النخبة السياسية والأمنية التي تسيطر على المؤسسات الرسمية المركزية القائمة على سن القوانين الأساسية المتحكمة في الإعلام، من جهة، والتي تسيطر على تعريف الفضاء الوجودي للمجموع اليهودي في (إسرائيل) من جهة أخرى.
ويوضح الكاتب أن هذه النخب متآلفة فيما بينها من أجل خدمة مصالحها المتبادلة، معتبراً أن هناك تقاسماً وظيفياً واضحاً بين نخبة أصحاب رؤوس الأموال والسياسيين ورجال الأمن؛ فبينما يهتم السياسيون بالظهور في وسائل الإعلام للوصول إلى الجمهور، ويهتم العسكريون بالمحافظة على النظام القائم الذي يضمن لهم مكانة مميزة في المجتمع، فإن ما يهم أصحاب رؤوس الأموال هو رعاية مصالحهم الاقتصادية من خلال قوانين إعلامية مريحة وشرعية آمنة، موضحاً أن المصالح المختلفة لهذه النخب تبادلية تلتقي بشكل واضح في الإنتاج الإعلامي الذي يهيمن فيه الخطاب الرسمي، من جهة، وطابع التسلية، من جهة أخرى، فالإعلام الإسرائيلي انتقل مع مرور الزمن من إعلام يغلب عليه الطابع الإخباري الرسمي إلى إعلام تميزه المعلوماتية المسلية الخاضعة للأجندة الإستراتيجية المهيمنة.
ويرى الكتاب أن نظرية التعددية الليبرالية للمؤسسات الإعلامية، التي ترى بوجود سوق حرة للآراء كضمانة أساسية للديمقراطية والحرية، غير قادرة على تعليل وتفسير مضامين المنتجات الإعلامية الإسرائيلية؛ لأنها قاصرة عن إظهار العلاقة الجدلية بين بنية ومضامين إعلامية تعددية وترفيهية، من جهة، وخضوع الإعلام العبري العلماني إلى حد كبير للخطاب الأمني والرسمي، ومحدودية مضامينه داخل الرؤية الصهيونية للواقع الإسرائيلي، من جهة أخرى.
ويقول الكاتب: إنه من الصعب تقبُّل الادعاء النظري الذي روج له الباحثان الإسرائيليان (دان كاسبي) و(يحيئيل ليمور) بأن الإعلام الإسرائيلي يلعب دور الوسيط بين القوى الاجتماعية المختلفة لسببين:
الأول: يتعلق بالتصور بأن وسائل الإعلام هي حيز معتدل يلعب دور "البوسطجي" الذي ينقل الرسالة من مكان إلى آخر دون التأثير في مضمونها، فمن الواضح أن هذا التصور غير صحيح الآن، ولم يكن صحيحاً أبداً حتى وإن كان من المتوقع أن يلعب هذا الدور، كما ادّعى بعض باحثي الإعلام الليبراليين.
أما السبب الثاني فيتعلق بكون وسائل الإعلام لاعباً فاعلاً على الساحتين السياسية والاقتصادية، وذلك بطبيعة كونها إما ملكاً عاماً تخدم مصالح الفئات السياسية الحاكمة، أو ملكاً خاصاً تخدم مصالح مالكيها؛ فالإعلام الإسرائيلي -كما يرى الكاتب- ينقسم بين ما هو خاص وما هو عام، وفي الحالتين يشكل الإعلام أداة ناجعة لتأدية أهداف لا تتمثل في نقل المعلومات فقط.
ويخلص الكتاب إلى أن الإعلام والصحافة خضعا إرادياً لمصالح المؤسسة السياسية والعسكرية والنخب المهيمنة فيها، ويفسر الكاتب سبب إخلاص الإعلام في (إسرائيل) للمؤسسة السياسية، معتبراً أن ذلك يعود لعوامل مترابطة منها: الشعور بالحصار عند معظم الجمهور اليهودي في (إسرائيل)، إضافة إلى وجهة النظر السائدة لدى معظم الجمهور اليهودي بأن الدولة لا تزال في خطر.
ويرى د. جمال أن السبب الثاني لهذا الإخلاص مرتبط بالتجربة الشخصية للصحافيين في (إسرائيل)؛ إذ إن معظمهم ينحدر من الخلفية الاجتماعية والاقتصادية نفسها التي تنحدر منها النخبة السياسية، كما يشترك معظم المراسلين والمحللين العسكريين في خلفية عسكرية وأمنية واحدة، لهذا تتأثر تأطيراتهم الإعلامية بخبرات الماضي.
ويرى الكاتب أن السبب الثالث مرتبط بعامل اقتصادي، فأصحاب وسائل الإعلام هم على الأغلب يهود إسرائيليون عاملون في الحلبة الاقتصادية، ويشكل الاستقرار السياسي والأمني ضمانة للازدهار الاقتصادي للإعلام.
ويعتبر الكاتب أن في هذا توجد مصلحة مشتركة للنخبة الفعالة في إيجاد جو استقرار يمكن أصحاب رؤوس الأموال من إدارة الإعمال، والنخبة السياسية من المحافظة على موقعها، معتبراً أن إخلاص المؤسسة الإعلامية الإرادي للخطاب الرسمي لا ينتهي عند الرغبة في إيجاد جو مريح وسط الجمهور، فوسائل الإعلام تشكل جزءاً مهماً من مبنى الاقتصاد التآلفي الذي ينطوي على روابط متبادلة تخدم مصالح النخبة المهيمنة.
ويعتبر الكاتب أن مبنى السلطة الثانية للتلفاز والإذاعة التي يتوفر فيها تعاون بين جهات عامة ومستثمرين خاصين مثال على اتحاد اقتصادي مؤثر بصورة جوهرية على عمل وسائل الإعلام، موضحاً أن النخبة السياسية المهينة تزوّد البنية التحتية القانونية لاستثمار رؤوس أموال في مجال الإعلام، والإعلام يزود في المقابل الإطار المعبر عن إخلاصه للخطاب السياسي الرسمي، معتبراً أن النخب السياسية والعسكرية والإعلامية متصلة فيما بينها في أكثر من مصلحة واحدة، ولهذا فهي تشكل جزءاً من مبنى سيطرة يدمج بين رؤوس الأموال والدولة.