لم تكن عملية التحول الديمقراطي التي شرعت بها الجزائر منذ اقرار دستور شباط/ فبراير 1989، عملية سهلة او يسيرة وانما تخلل انتقال الجزائر من نظام حكم شمولي يرتكز على نظام الحزب الواحد، الى نظام متعدد الاحزاب يتجه نحو السعي الى التحول الديمقراطي، الكثير من العقبات والمعوقات التي أثرت بشكل جدي في مجمل عملية التحول الديمقراطي، وجعلتها في كثير من الاحيان امام امتحانات عسيرة، جعلت كثيرين يشككون بامكانية نجاحها لاسيما وان تعارض المصالح بدا واضحا ً فيها بين فريقين احدهما مؤيد لاجراء الاصلاحات السياسية والاقتصادية كنقطة انطلاق في التحول الديمقراطي، ولآخر معارض للاستمرار بتلك الاصلاحات جملة وتفصيلا ً ويرمي الى الابقاء على الهياكل السياسية والاقتصادية التي سارت عليها الجزائر منذ استقلالها سنة 1962.
وبين هذا الفريق وذاك برز فريق ثالث يرى اجراء الاصلاحات سبيلاً لاخراج النظام السياسي من ازمته التي بلغت الذروة سنة 1988، وفي الوقت نفسه يرفض ان تكون تلك الاصلاحات غير مقيدة او مشروطة.
ونرى ان الفريق الثالث كانت له الغلبة في تسيير رأيه على رأي الفريقين الاولين ودفعه باتجاه تحول ديمقراطي اقلّ ما يمكن ان يقال عنه انه مقيد، لابل يمكن ان يقال عنه انه مفروض. الشروع بهذا النهج وفرضه على عملية التحول الديمقراطي في الجزائر كان يمثل استجابة لاسباب داخلية موجودة اصلا ً ولم تحصل على حلول جدية طيلة الحقبة السابقة لعملية التحول الديمقراطي، فضلاً عن استجابة لاسباب خارجية عصفت بالنظام السياسي الجزائري وارغمته على التحول.
الى ذلك، نحاول الاجابة عبر هذا البحث عن الاسباب التي ادت بالجزائر الى التحول الديمقراطي، والمعوقات الرئيسة التي تقف حيالها فضلا ً عن استشراف مستقبلها؟
اسباب التحول الديمقراطي في الجزائر
لم يكن التحول الديمقراطي الذي شهدته الجزائر منذ شباط/ فبراير 1989، تحولا ً طبيعيا ً او نتاجا ً لأداء النظام السياسي الجزائري في ترقية العلاقة بينه وبين المجتمع، وانما تقف وراء ذلك التحول الكثير من الاسباب اهمها:
اولا ً: ضعف استجابة النظام السياسي للمطالب المجتمعية اقتصاديا ً وسياسياً.
1-الازمة الاقتصادية: شهدت الجزائر منذ النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين تدهوراً اقتصاديا ً واضحا ًوهو ما كشفت عنه بوضوح مؤشرات النشاط الاقتصادي في الجزائر. وتمثلت ابرز مظاهرها في:
ا- تراجع الناتج القومي. المعبر عنه في الجدول التالي:
الملاحظ ان الناتج القومي انخفض خلال سنة واحدة (1988) بمعدل 15% وفي المدة نفسهـــا تراجع فيهـا الناتـج القـومي الاجمـالي، في حين كــان معــدل النمـو السكاني يصل الى 3% الأمر الذي يؤشـر حالـة التدهــــور في تلبيـــة احتياجـات المواطنين.
ب- العجز في ميزان الحساب الجاري، فبعد ان حقـق فائضـاً بلـــــغ (1014) مليــــون دولار في سنة 1985. سجــــل عجزاً في السنة التالية بلغ (2230) مليون دولار وقد انخفض العجز الى (772) مليــــون دولار في 1988، ولكــن بتكلفــــة اقتصـــــادية واجتماعية لايمكن الا ان تكون شديدة الارتفاع. لقد تحقق هذا الأنخفاض مثلا ً على حساب الواردات التي ضغطت بشكل مستمر خلال الثمانينات، فبعد ان كانت قيمتها (15,367) مليون دولار في سنــة 1986 و (10,116) مليون دولار في سنة 1987 و (9,637) مليون دولار فقط سنة 1988 (1). نتج عن ذلك، وصول نسبة الانكمــــاش في الــــــواردات بين 1986 و 1988 الى (18,48) ويعـــــود ســـــبب ذلك الى
-انخفاض قيمة الصادرات الجزائرية من المحروقات، فضــــلاً عن التـدني في اسعـار المحروقـــــات كمــــا مبين في الجدول الاتي:
قيمة الصادرات الجزائرية من المحروقات للفترة من 1986الى 1988
(القيمة مليون دولار أمريكي)
نتج عن ذلك الانخفاض عجزٌ في تلبية المطالب الاجتماعية المتصاعدة باستمرار جراء الزيادة السكانية ومن جراء الآلة الانتاجية المفككة التي أصبحت عاجزة عن استقبال عمالة جديدة لدرجة انه بدأ التفكير جدياً في تسريح العمال (2).
- خدمة المديونية الخارجية وارتفاعها: لقد قدرت قيمة المديونية الخارجية طويلة الأجل في سنة 1988 حوالي (23,229) مليون دولار أمريكي. أي بنسبة (44,5 %) من الناتج القومي الاجمالي ، ووصلت خدمتها الى (6,343) مليون دولار. اي بنسبة(72,3%) من حصيلة الصادرات والسلع والخدمات.
وكان من الطبيعي ان يؤدي الانكماش في الواردات في السلع الغذائية الى تباطؤ في النشاط الاقتصادي. مثال ذلك انه في الربع الثالث من سنة 1989 كان المخزون من مستلزمات الانتاج قد نفد في (60%) من المنشآت الصناعية وان 41% من الطاقة الانتاجية للقطاع الخاص كان مستخدماً بنسبة تقل عن 50% وكان طبيعياً ان ينعكس هذا الوضع على تلبية الاحتياجات الاساسية للمواطن(3).
وضاعف من حدة المشكلات الاقتصاديةوالاجتماعية وخطورتها مجموعة من العوامل اهمها:
- ارتفاع معدل الزيادة السكانية في الجزائر، الذي يصل الى 3% ويعد من اعلى المعدلات في العالم . ترتب على ذلك ان نحو 60% من السكان اعمارهم دون سن العشرين. وهو ما يلقي اعباءً ثقيلةً فيما يتعلق بخدمات التعليم والصحة والاسكان والصرف الصحي... وتوفير فرص عمل حقيقية لتلك الاجيال الناشئة حفاظاً على الامن الاجتماعي والاستقرار الحياتي. وفي مثل هذه الحالة فأن هؤلاء الشباب مستعدون للأنخراط في اعمال عدائية ضد النظام السياسي.
- استشراء الفساد في بعض القطاعات الحكومية واضراره بالمصلحة العامة وبالاقتصاد الوطني الجزائري. وتمثلت احدى اهم مظاهر الفساد في قطاع البترول والغاز. واتهم “ سيد احمد غزالي” وزير البترول الجزائري الاسبق “ بلقاسم بن نبي” والمسؤولين عن قطاع النفط والغاز بالاضرار بالاقتصاد الوطني والحصول على رشاوى تبلغ عدة مليارات من الدولارات. (4)
ويبدو ان وطأة الآثار الناجمة عن تدهور الوضع الاقتصادي واعبائه على النظام السياسي الجزائري. قد بدا واضحاً عندما اقر الرئيس الجزائري الاسبق “ الشاذلي بن جديد” في بيان متلفز توجه به الى المواطنين يوم العاشر من تشرين الاول / اكتوبر 1988 (اي بعد احداث 5 تشرين الاول/ اكتوبر من العام نفسه) بالمصاعب الاقتصادية التي واجهتها الجزائر في الاعوام الاخيرة، وذكر بهبوط اسعار المحروقات وبالجفاف وبعبء المديونية الخارجية. (5) ومعها اضيف عنصر آخر لازمة النظام السياسي متمثلة بازمة العلاقة بين النظام السياسي والاجتماعي.
2- ازمة المشاركة السياسية:
شهدت الجزائر ازمة المشاركة السياسية. وتصبح المشاركة السياسية ازمة من ازمات التنمية السياسية” عندما تأخذ جماعات جديدة بالمطالبة باشراكها في الحكم على نحو أو آخر . وفي الوقت نفسه تنطوي على ازمة شرعية وتشكل تهديدا ً لمركز الجماعة الحاكمة وعلى الاخص اذا بدت هذه الاخيرة لاتستجيب الى مطاليب القوى الصاعدة ولاريب ان كل ما يؤدي الى تغيير المجتمع ماديا ً كالتصنيع والتكنولوجيا او اعادة النظر في النظم الزراعية وغير ذلك يؤدي الى تصاعد جماعات اجتماعية تطالب باشراكها في الحكم. (6)
واستنادا ً الى ما تقدم فان المشاركة السياسية تصبح ازمة في حالات هي:
1- ظهور جماعات تطالب باشراكها في الحكم.
2- عدم استجابة الجماعة الحاكمة الى مطاليب القوى الاجتماعية الصاعدة.
وهنا لابد من التاكيد على ان الجزائر عرفت نوعاً من المشاركة يتفق في خطوطه العامة مع ما عرفته معظم بلدان العالم الثالث وهو ما يمكن ان يكون اقرب الى مفهوم التعبئة “ mobilisation “ منه الى المشاركة، كمبدأ سياسي وكاجراء نظامي وكجوهر لمفهوم الديمقراطية في الممارسة السياسية. (7)
عليه الى أي مدى انسجم هذا النمط (التعبوي) مع التغير الحاصل في بنية المجتمع الجزائري (النظر’ة هنا من زاوية صعود جماعات اجتماعية جديدة، ومدى استجابة النظام السياسي لها). المتوقع في هذا النمط هو ان لايسمح بوجود معارضة نظامية قادرة على مناقشة قرارات النظام السياسي ومساءلته. ويقوم مع ذلك بتعبئة الجماهير من خلال المؤتمرات والمسيرا ت الشعبية والحملات الدعائية، لا كسبيل للمشاركة الحقيقية، ولكن كاداة لمساندة قرارات النظام وسياساته. (
وادى حزب جبهة التحرير الوطني دورا ً في ترسيخ هذا النمط من المشاركة وتوجيهه، باعتباره الاداة التي من خلالها يتم ربط الجماهير بالنظام، ولكن حتى هذا الدور ظل ّ مقرونا ً بمؤسسة الرئاسة. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح خلال عهد الرئيس الاسبق” احمد بن بلة” والرئيس الاسبق الراحل” هواري بو مدين” والى حد ما الرئيس الاسبق “ الشاذلي بن جديد”، اذ ظل دور الحزب محدودا ً بما يقرره الرئيس، فاصبح الاداة التي يتم من خلالها تعبئة الجماهير.
استمر النمط التعبوي للمشاركة لفترة طويلة وتحديداً منذ عام 1962 وحتى عام 1989 مع الأخذ بنظر الاعتبار ان الرئيس الاسبق “ الشاذلي بن جديد” قد اعطى هامشاً محسوباً لحرية التعبير وتكوين النقابات، ولكن مع استمرار ذلك النمط من المشاركة السياسية كيف تعامل النظام السياسي مع محاولات الجماعات الصاعدة الرامية الى تحقيق مطالبها؟ تلك مسألة ارتبطت بالوضع الاقتصادي في الجزائر لان المتعارف عليه انه في ظل الوفرة لايمكن الحديث عن ازمة مشاركة، او لم تكن حادة او مهددة للنظام السياسي. وفي حالة الجزائر لم تظهر ازمة المشاركة بصورة جدية طالما ان عوائد النفط ادت الى الوفرة، لكن طرحت نفسها كازمة وعانى منها النظام السياسي مع تدني عوائد النفط وتدهور الوضع الاقتصادي. وبحسب غسان سلامة “ فان الدولة النفطية ليست بحاجة الى الاعتماد المطلق على العائدات الضريبية (الدولة الريعية) وهي ليست بحاجة لتلك العائدات إن أمن لها النفط اسباب استمرارها وهي بالتالي اذا ذهبنا بالمقارنة الى حدها الاقصى ليست بحاجة لاقناع الناس بدفع الضرائب وبالتالي ليس فيها الكثير من القابلية للتحول الى المنحى الديمقراطي” . (9)
نستنتج مما تقدم ان التناقض بدا واضحا ً بين النمط المتبع للمشاركة وبين تطبيق هذا النمط، لان الاصل يفرض ان تكون هناك قنوات مؤسسة. لكن في حالة الجزائر ظلّ مقرونا ً بالحزب والرئيس. وحتى في الحالة التي يفترض ان يكون للحزب دور رئيس في تكريس هذا النمط الا انه ظل حبيس التناقض بين الدور والاداء فالدور المنوط بالحزب دستورياً هو ان يقود عملية التحول، ولكن الاداء عبرت عنه مؤسسة الرئاسة وشخص الرئيس تحديدا ً. لذلك نلاحظ انه مع فقدان الرئيس ولاسيما” هواري بو مدين” الذي كان يجسد هذه العملية من المشاركة، وتفاقم تدهور الوضع الاقتصادي طرحت ازمة المشاركة السياسية بحدة في الجزائر، وخرجت بذلك الجماعات الصاعدة من المحور الذي ظل يوجه حركتها(10) .
ثانياً- الموجة العاتية ضد الانظمة الشمولية التي رافقت التغيرات التي اصابت النظام السياسي الدولي، وانكشاف تلك الانظمة امام عصف تلك التغيرات، وحركة التناقضات الموجودة اصلا ً في الانظمة الشمولية شكلت عنصرا ً ضاغطا على صناع القرار في الدول الاكثر قربا من (الاتحاد السوفيتي السابق)(11) او تلك الدول التي اخذت من النموذج السوفيتي لاسيما في مجالي الحزب الواحد والاقتصاد الموجه.
ترافق مع تلك التغيرات ضرورة الاستجابة للمتطلبات الخارجية ولا سيما في مجال التحول الديمقراطي واقرار التعددية السياسية والحزبية (12). الامر الذي اثر في الركيزة الاساسية للنظام السياسي الجزائري المتمثلة بالحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني).
عليه، حركت التناقضات باتجاه استجابة النظام السياسي للضغوط التي فرضت عليه، وفيها من وجهة نظر النظام خلاص من التناقضات الداخلية وبذلك يمكن القول ان ضغوطات البيئة الخارجية كانت الدافع الرئيس للتحول الديمقراطي، وان البيئة الداخلية (رغم انها حبلى بالتناقضات) للنظام السياسي لم يكن لها دور يوازي دور البيئة الخارجية للنظام، لاسيما اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان كل مطالب البيئة الداخلية للنظام يمكن السيطرة عليها مع استخدام النظام السياسي القوة في السيطرة على المطالب المجتمعية، لكن الضاغط الخارجي لايمكن للنظام السياسي الفكاك منه او تحديه. هذا اذا ما ادركنا ان الاستجابة للضغط الخارجي ربما يكون بمثابة المخلص بالنسبة للنظام السياسي الجزائري في تعامله مع البيئة الداخلية المأزومة اصلاً.
من هنا يمكن القول ان استجابة الجزائر لأجراء تحولات اجتماعية- سياسية على وفق طروحات التحولات الديمقراطية التي ازدادت في العالم، كانت استجابة للضغوط الخارجية وليست استجابة لحاجة مجتمعية، لان المسار الديمقراطي الذي شهدته الجزائر منذ سنة 1989 ما هو الا انعكاس لقرارات النظام السياسي ومسعاه لحل ازماته وتناقضاته وهو ما سنبينه لاحقا ً.
ثالثا ً: احداث تشرين الاول/ اكتوبر والتحول الديمقراطي في الجزائر
شكلت احداث تشرين الاول/ اكتوبر استجابة ورد فعل لمتطلبين اساسين هما ازمة النظام السياسي وضغط البيئة الخارجية للنظام، وشكلت في الوقت نفسه دافعا ً رئيسا ً لإجبار النظام السياسي لاجراء التحولات الديمقراطية، لاسيما وان تلك الاحداث كشفت عن عمق الازمة التي يعيشها النظام السياسي، ويبدو ان المدخل السياسي(13) المرافق لتدهور الوضع الاقتصادي (المدخل الاقتصادي) هما من ابرز المداخل لتفسير العوامل التي قادت الى احداث تشرين الاول/ اكتوبر 1988، لاسيما وان الاول (المدخل السياسي) ركز على ان طبيعة النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، وما صاحبه من احتكار للسلطة وممارستها من نخبة سياسية- عسكرية، فضلا ً عن غياب المشاركة السياسية ضمن اطار شرعي مؤسسي، ادت الى ان تبلغ التناقضات مستوى يفوق قدرة مؤسسات النظام القائمة على ضبطها واحتوائها ومعالجتها باسلوب ديمقراطي، فالنظام الجزائري، لم يملك اي تقاليد ديمقراطية (14)، او يمتلك ميراثا ً يفصح عن مشاركة سياسية حقيقية، فالقيمة السياسية السائدة، هي التعبئة وليس المشاركة. وقد ادى ذلك الى توسيع الفجوة بين الدولة ونظامها السياسي بكل عناصره من جهة، وبين المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية من جهة اخرى. مما جعل مؤسسات الدولة تفقد مصداقيتها لدى اغلب الطبقات والفئات الواسعة من المجتمع.
ترتب على ذلك، ان العلاقة التي سادت بين الدولة والمجتمع، اتسمت دائما ً بطابع عدائي متبادل، وقد تحول العنف المتبادل، الى قانون فاعل في الحياة السياسية الجزائرية، فهو انموذج من التطور التاريخي والثقافي والسياسي المتأصل في البنية الذهنية للمواطن، الأمر الذي خلق تقاليد من العنف، تحكم بصفة دائمة علاقة الدولة بالمواطن. وقد كانت الاحداث الجزائرية مؤشرا ًعلى حجم الكبت المتراكم وغياب التأطير العقلاني لحركة المجتمع السياسية والاجتماعية.
هذه الاحداث وتهيئة الظروف الدولية قادتا الى اجبار النظام السياسي الجزائري على البحث عن مخرج، وجاء هذا المخرج باقرار دستور عام 1989، ليعلن بدء تحول الجزائر الى النظام السياسي الديمقراطي مغايرا ً بذلك الاطار الدستوري القانوني الذي كان ينظم الحياة السياسية في الجزائر منذ الاستقلال وحتى عام 1989.
متطلبات التحول الديمقراطي
لايمكن احداث التحول الديمقراطي بدون توفر متطلبات اساسية يمكن من خلالها الشروع بعملية التحول الديمقراطي، وتمهيد الارضية لمأسسة العملية الديمقراطية برمتها. واذا صار من المسلم به ان عملية التحول ينبغي ان تاخذ بنظر الاعتبار خصوصية المجتمع، لا ان تكون تجربة جاهزةوتطبق في هذا البلد او ذاك. الا ان عملية التحول ينبغي ان تتوافر على وجود الكثير من المتطلبات في المجتمع ومن ذلك ما ياتي:
1- توسيع قاعدة المشاركة السياسية:
بحيث تمثل في العملية السياسية شرائح المجتمع كافة بمختلف توجهاتها السياسية وانتماءاتها. فضلا ً عن ان تكون ضامنة وقادرة على استيعاب الشرائح الاجتماعية الجديدة ومطالبها المتصاعدة. وهنا تاتي مسؤولية المؤسسات السياسية التي ينبغي ان تكون لها القابلية على التكيف مع التغيرات الحاصلة في المجتمع، وفي الوقت نفسه قادرة على استيعاب تلك المطالب، وبهذا الاجراء يضمن عدم التهميش او الاستبعاد او الاقصاء من العملية الديمقراطية.
2- ترقية الجانب النفسي (السايكولوجي):
المتعلق بسلوك الفرد والجماعة، والذي بمجمله يمثل سلوك الفرد وتشكله في نظرته الى السلطة، وبالتالي يشكل الموقف من عملية التحول الديمقراطي. وباختصار ترقية الجانب المتعلق بايمان الفرد والجماعة بضرورة التحول الديمقراطي.
3- ترسيخ المؤسسات السياسية:
التي تكفل ايمان الفرد والجماعة بضرورة التحول الديمقراطي (عبر الجانب المؤسسي والتنظيمي مصاغا ً ومبلورا ً في دساتير وقوانين... على ان يكون ذلك دائرا ً في اطار ثقافي يقبل بالديمقراطية والتعدد سبيلاً الى النهضة والتقدم عموما ً) (15) وتجسده المشاركة السياسية. (16)
4- إقرار التعددية السياسية:
التي من اهم اهدافها “ ان تكفل تداول السلطة وحريات التعبير عن الرأي والمصالح والانتخاب... الخ، وعلى هذه الاساس يؤكد “غسان سلامة” على ان “هدف التعددية السياسية وسبب وجودها هو إنشاء الطريقة المؤسسية التي تسمح لاحد اطراف التعددية بالوصول للسلطة مكان الطرف المسيطر ومن يتجاهل هذه القاعدة البديهية يتخبأ وراء إصبعه”. (17)
5- ترقية مؤسسات المجتمع المدني:
ظلت مؤسسات المجتمع المدني لحقبة طويلة من الزمن حبيسة ارادة الدولة وسلطانها. فالدولة سلبت من المجتمع وظائفه الحيوية واحتكرتها لنفسها، وجردت الشعب من حقوقه الانسانية ومنها حق المشاركة في الحياة السياسية وحق التعبير عن ارائه المستقلة .(18) ولذلك لابد للدولة التي تريد التحول الى الديمقراطية من ان توجد للمجتمع المدني المناخ السليم لنمو مؤسساته وازدياد فاعليته، لان الديمقراطية تقتضي السماح بتعدد وتنوع واختلاف الآراء بل ان اختلاف الآراء يعد سمة من ابرز سمات الديمقراطية. (19)
معوقات التحول الديمقراطي في الجزائر
كثيرة هي المعوقات التي اعترضت عملية التحول الديمقراطي في الجزائر، وأثرت سلبيا ً على العملية برمتها بدءاً من اقرار التحول الديمقراطي وصولا ً الى الوقت الحاضر، وبالشكل الذي جعل امكانات ترسيخ اسس الديمقراطية يحتاج الى مزيد من الوقت. واذا سلمنا ان التاثير الخارجي في اجراء عملية التحول كان كبيرا ً (وكثيرا ً ما اصطدم بعدم تهيؤ الجزائر لمثل هذه النقلة باتجاه الديمقراطية)، فان التاثير الداخلي حملَ بين ثناياه الكثير من المعوقات التي تحول دون اجراء عملية التحول الديمقراطي بيسر وسهولة. ولعل من ابرز تلك المعوقات ما يأتي:
اولا ً: الصراع بين اركان النظام السياسي.
منذ احداث تشرين الاول/ اكتوبر 1988، وحتى اواخر عام 1991 سار النظام السياسي الجزائري باتجاه تدعيم الاصلاحات السياسية التي شرع بها منذ عام1989، غير ان الشروع بالاصلاحات وتكريسها لم يحل دون ظهور انقسامات حادة بين اركان النظام السياسي، بسبب تنامي قوة الجبهة الاسلامية للانقاذ. وتكرست تلك الانقسامات في خطين احدهما اصلاحي والآخر متشدد. وعمل الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد على تدعيم الاتجاه الاصلاحي مستفيداً من دستور 1989 والصلاحيات الممنوحة له، وفي الوقت نفسه عمل على التقليل من سلطة جبهة التحرير على الحكومة. (20) فاستبدل” قاصدي مرباح” “بمولود حمروش” (الذي عمل على اختيار حكومة من التكنوقراط اذ ضمت الحكومة لاول مرة عددا ً من المحترفين الشبان يفوق كوادر جبهة التحرير فيها) ليضمن حالة من الانسجام في العلاقة بين خط الرئاسة والوزير الأول تلك العلاقة التي اتسمت عموما ً بالتناقض بين الاثنين. (21)
تعاظم شعبية الجبهة الاسلامية للانقاذ(22)كان من أهم التطورات التي نتجت عن الاصلاحات وازاء ذلك بدأ رجحان كفة التيار المتشدد من النظام السياسي، لاسيما بعد ان حصلت مجموعة من التطورات الشعبية التي من شانها ان تدفع بالاتجاه “المتشدد” الى الضغط على رئيس الجمهورية لاسيما من المؤسسة العسكرية والتيار العلماني. الامر الذي صعد من المواجهة بين “ الشاذلي بن جديد” والحكومة (خاصة المتشددين منهم). وحسمت تلك المواجهة لصالح المتشددين بمباركتها لتحرك وزير الدفاع آنذاك “خالد نزار” (23)باجبار الرئيس على الاستقالة. (24)
الملاحظ ان الفترة المشار اليها قبلا ً شهدت صراعا ً بين اركان النظام السياسي وانعكس الصراع على عملية التحول الديمقراطي اذ اثر ذلك الصراع على الاهتمام بالاصلاحات والمضيّ بالعملية الديمقراطية الى مداها الطبيعي، ويمكن وصف الصراع بانه صراع في النظام. لكن بحصول تغير وفوز الجبهة الاسلامية للانقاذ في الدورة الاولى من الانتخابات التشريعية كانون الاول/ ديسمبر 1991 ،(25) وتزايد شعبيتها واتساع قاعدتها التنظيمية انفجر الصراع وتحول الى صراع على النظام، ولكن هذه المرة على نحو علني بين المتشددين في النظام السياسي الجزائري والجبهة الاسلامية للانقاذ وهو ما تكشف بوضوح عقب رجحان كفة المطالبين بالغاء الانتخابات وايقاف المسار الانتخابي. بالنتيجة شكل الصراع بين اركان النظام السياسي بداية تعطيل التجربة الديمقراطية.
ثانيا ً: المؤسسة العسكرية
ادت المؤسسة العسكرية دورا ً سلبيا ً في عملية التحول الديمقراطي في الجزائر، من خلال الدور الذي أدته في ايقاف المسار الانتخابي في بواكير الشروع بعملية التحول وتحديداً عقب الانتخابات التشريعية في اواخر 1991، وخرقت دستور عام 1989 والذي نصّ على انهاء الدور السياسي للجيش، والغاء الدور الذي كان يعطيه دستور 1976 للجيش في بناء الاشتراكية، على العكس من ذلك، عاد الجيش مع عملية التحول الديمقراطي الى بؤرة السياسة الجزائرية وقادت عودته الى الاتيان بافتراضات حول موقف المؤسسة العسكرية من الانتخابات، وجاء موقف المؤسسة العسكرية ليرفض كل الافتراضات ويؤكد على ان هناك خيارين لاثالث لهما26)
1- اما السماح باجراء الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، وهذا يعني من جانب المؤسسة العسكرية ان الامر بحكم المنتهي لمصلحة “جبهة الانقاذ”واستلامها السلطة.
2- واما تعطيل المسار الانتخابي، وهو الاجراء الذي لاتنقصه سوى الوسيلة للوصول اليه.
وبالتالي يؤكد الخيار الثاني انطلاقا ً من الدور الذي رسمته المؤسسة العسكرية لنفسها، وسعت باتجاه تعطيل المسار الانتخابي، وظل دور المؤسسة العسكرية موجها لعملية التحول الديمقراطي وبشكل مؤثر. ولكن هذا الدور سيبدأ بالانحسار مع بداية انتخاب الرئيس عبد العزيز بو تفليقة في نيسان/ ابريل 2004، ذلك ان الكثير من مظاهر الازمة التي عانتها الجزائرمنذ ايقاف المسار الانتخابي سنة 1992، بدأت بالانحسار، وصار دور المؤسسة العسكرية اقل وضوحا ً. ويبدو ان من بين اسباب ذلك ليس النهج الذي اختطه عبد العزيز بو تفليقةفي حقبتيه الاولى والثانية، وانما يمثل استمرار تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية معوقا ً رئيسا ً تجاه التحول الديمقراطي، الذي يتطلب من بين ما يتطلب هو ان السياسة فيه لعبة مدنية صرف، ومجال مفتوح للمنافسة بين المواطنين، يحكمه الدستور والقانون. وكما القضاء يفصل بين المنازعات المدنية وفي المنازعات بين المؤسسات والاجهزة بمقتضى القانون الذي يعلو على الجميع، ممارسا ً سلطة أقرها له الدستور، كذلك الجيش يمارس سلطته التي اقرها له الدستور وهي حفظ كيان الوطن والدولة والامة من الخطر الخارجي الذي يتهددهااو يمكن ان يتهددها. وهي سلطــــة لاتخــوله نقل خطوطه العسكرية الى الداخل، او الانتقال من حـــــدود الدولة الى حدود السلطة، لان ذلك يخل بوظيفته الطبيعية والقانونية.(27)
ويبدو ان تعاظم دور المؤسسة العسكرية سوف لن ياخذ المنوال نفسه، لاسيما وان مأزق المؤسسة العسكرية في الجزائر يكمن في انقسامهم حول وحدة الرؤيا في التعامل مع الازمات، وهو ما افتقرت اليه المؤسسة العسكرية في ذروة هيمنتها على الحكم في الجزائر.(28) واقصد هنا مدة حكم (المجلس الاعلى للدولة)، فضلا ً عن ذلك فانه يوجد تناقض بين دور المؤسسة العسكرية واستمراره والحاجة الى التحول الديمقراطي، ومعه صار من الضروري البحث عن مزيد من الانسجام بين المؤسسة العسكرية بوظيفتها التقليدية- المهنية ومؤسسة الرئاسة. واخيراً، فان الضغط الخارجي يؤدي ايضا ً الى الحيلولة دون وصول الجيش الى سدة الحكم انسجاما ً مع التوجه الذي تحاول ان تفرضه القوى الخارجية، والمتمثل في جعل الحكم (ديمقراطيا ً). لذلك فهي ترضى بالجيش منسقا ً للتحول الديمقراطي، وترفض الحكم العسكري المباشر.
مستقبل التحول الديمقراطي في الجزائر
لاينبغي وضع مجمل عملية التحول الديمقراطي في الجزائر بخانة التكهنات بدراسة مستقبلها، وانما علينا البدء باستقراء جيد لعملية التحول منذ بدايتها وحتى يومنا هذا. تؤشر خلاصة استقراء تلك المرحلة انها جاءت بقرار من النظام السياسي آنذاك- عهد الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد- وظلّ مسيرا ً لمجمل العملية ومحركا ً لها، واستخدم اساليب الاقصاء والابعاد لقوى سياسية محددة كالجبهة الاسلامية للانقاذ، فضلاً عن اصدار مراسيم لتوجيه عمل القوى السياسية كتشريعات آذار/ مارس 1997 - عهد الرئيس السابق زروال- وتغيير اسماء الاحزاب ولاسيما الاسلامية منها. بمعنى ان العملية لم تأتِ استجابةً لحاجة مجتمعية، حتى وان سلمنا كما كتبنا في ثنايا البحث، ان الاسباب الداخلية اثرت في عملية التحول الديمقراطي، ولكن يبقى من الصحيح القول بأنَّ مجمل العملية مثلت إستجابة من النظام السيـاسي لمطالب خارجية تتمثل إما بحاجة النخب السياسية للبقاء في الحكـــم او لحاجة النظام الى المساعـــدات الاقتصاديـــة لاسيما وان تلك المساعدات صارت مشروطة باجراء اصلاحـــات سياسية واقتصادية....
يضمن النظام السياسي من خلال تلك الاستجابة الحد من الازمة التي يعانيها اصلاً بركنيها الاساسين السياسي والاقتصادي، فضلا ً عن الانسجام مع نظام سياسي دولي من اجل الابقاء على الوضع القائم، خاصة وان الجزائر لم تحسم الكثير من مشكلاتها التي عانت منها منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، وصارت بمواجهة آثار تحولات عالمية مازالت تداعياتها مستمرة- شهدها المجتمع الدولي منذ منتصف الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي- ومعها صار النظام السياسي على مفترق طرق بين متطلبات لم يف بها وآثار تعصف بالنظام السياسي والدولة.
ربما تؤدي عملية التحول الى ترسيخ اسس نظام سياسي ديمقراطي، ولكن تلك المسألة مرتبطة اولا ً وأخيرا ً بجدية النظام السياسي في ذلك. فاذا استطاع النظام السياسي ان يرضي او يطمئن بيئته الخارجية، الا ان ذلك لايعني نجاح عملية التحول الديمقراطي، لان ركنها الثاني والمتمثل بالبيئة الداخلية للنظام السياسي واقصد هنا المجتمع الجزائري نفسه ماتزال تعتريه الكثير من المشكلات التي تعترض ترسيخ اسس التحول الديمقراطي، خاصة اذا ما سلمنا بان اجراء الانتخابات ما هو الامرحلة من مراحل التحول الديمقراطي. إذ حتى بالنسبة لدعاة المذهب الليبرالي الغربي فان “ احدا ً لايدعي ان النموذج الامريكي، رغم نجاحه (الباهر) في الولايات المتحدة، هو النموذج الذي يجب ان تتبعه كل الانظمة الديمقراطية، وعلى كل بلد ان يقيم حكما ينبع من ثقافته وتاريخه”.(29)
عليه حتى تستقيم عمليةالتحول الديمقراطي في الجزائر، على القائمين عليها ان يؤكدواعلى المصالحة بين الدولة ونظامها السياسي والمجتمع، اي ان تكون انعكاساً لمطالب اجتماعية وليس استجابةً لمطالب خارجية وحسب. وهذا يتطلب تسوية الكثير من المشكلات والتي من اهمها:-
1- الحد من قضية الابعاد والاقصاء لاي من القوى السياسية الفاعلة في الساحة السياسية الجزائرية، حتى بالنسبة الى تلك التي يرى النظام انها غير شرعية.
2- تحييد دور المؤسسة العسكرية، وعدم تدخلها في السياسية، حتى يتسنى للنظام السياسي الاستمرار في نهجه الذي يرمي الى احلال السلم في الجزائر دون اي تاثير منها.
3- حل المشكلات الناجمة التي شهدتها الجزائر عقب الشروع بعملية التحول الديمقراطي كقضايا المفقودين.
4- حل المشكلات السياسية والاقتصادية المتمثلة بالمشاركة السياسية والازمة الاقتصادية باعتبارهما السببين الرئيسين اللذين قادا الى عملية التحول.
نقول ان تلك اهم المشكلات التي ينبغي على النظام السياسي ايجاد حلول لها، لان حلها يكون بمثابة الارضية لمستقبل ديمقراطي يتطلع اليه الجزائريون. وبعكسه لن تثمر عملية التحول الديمقراطي عن مستقبــل افضل للجزائر.
الخاتمة
شكلت عملية التحول الديمقراطي في الجزائر جدلا ً واسعاً بين الدارسين والمهتمين بالشؤون الجزائرية، ولاسيما فيما يتعلق بامكانيات نجاح العملية أم لا. لاسيما مع بروز الكثير من التعرجات التي اعترضت العملية. ومبعث الجدل هو ان الجزائر وعلى الرغم من مرور عقد ونصف من الزمن ماتزال الكثير من المعوقات تعترض العملية. وتبين من خلال البحث ان السبب الرئيس في التعثر هو ان العملية جاءت استجابة لمتطلبات خارجية لان الكثير من الاسباب التي ادت الى التحول، ولا سيما منها الاسباب الداخلية ظلت بدون حل، بينما عصف تغييرات النظام السياسي الدولي هي التي ادت الى فرض التحول الديمقراطي على النظام السياسي الجزائري، وعلى الرغم من انصياع النظام السياسي لذلك العصف، الا ان الكثير من الركائز الاساسية التي يجب توافرها لانجاح عملية التحول الديمقراطي مازالت تتعثر كما هو الحال بالنسبة للمتطلبات التي وردت في ثنايا البحث” متطلبات التحول الديمقراطي” وفضلا ً عن ذلك فان الكثير من المشكلات التي تتطلب حلولا ً جدية من النظام السياسي مازالت غير متحققة.
لذلك كله نرى ان مستقبل التحول الديمقراطي في الجزائر رهين بحل تلك المشكلات حتى تتأسس قاعدة راسخة تبنى عليها عملية التحول الديمقراطي، وتجعل من العملية الديمقراطية سبيلا ً لحل مشكـلات العــلاقة بين الدولة والمجتمع من خلال الاستجابة للمطالب المجتمعية.