مقالات الكتاب > الغوغـــــــــائية .. والغوغائيون!
الغوغائية تنقض على الحيّز العام وتمتلكه عنوة ً, وبغياب سلطة رادعة تتحوّل إلى ظاهرة عارمة ومهيمنة ومع الوقت إلى نمط حياة مقبول ومتعارف عليه. الغوغائيون يتصرفون وكأن الدنيا تابعة لهم فهم لا ينصاعون للقوانين ولا للتعاليم. الغوغائية شكل من أشكال الاستبداد والإرهاب وعلينا محاربتها!
ما هي الغوغاء؟ حسب ابن عوف, الغَوْغاءِ هو الجَرادُ الذي يقوم باستعدادات مكثّفة للطَّيرانِ، وقد استعير هذا المُصطلح لوصف السَّفلةِ من الناسِ المُتَسَرِّعين إلى الشرِّ، الذين يكثرون من اللغط والجلبة والصياح. لكي أسهّل الأمر على القارئ الكريم فسأفسّرها بالعامية، الغوغاء هي جمع بين "الجعجعة" و"الشوشرة" و"العباطة" التي يستعملها ضعفاء النفوس وفقيرو العقل ومسلوبو الكرامة لفرض وجودهم وتغليب وجهة نظرهم. والغوغائيون يتصرفون وكأن الدنيا تابعة لهم فهم لا ينصاعون للقوانين ولا للإتيكيت ولا لأصول التعامل بين البشر ولا يعبأون بالإشارات والتحذيرات "ويسرقون المشهد" بالجلبة والضوضاء التي يقومون بها. إن حاولت ايقافهم عند حدّهم ينقضون عليك كالوحوش الكاسرة أو يبدأون بالمغالاة في غوغائيتهم لكي يثبتوا لك أنهم غير عابئين بما تطلبه منهم فلا مجال للتفاهم مع الغوغائيين اللهم إلا إذا انضممت إلى فريقهم وصرت غوغائيا ً مثلهم.
الغوغائية متواجدة في كل بقعة من بقاع وطننا العربي الحبيب من المحيط إلى الخليج، وتجدها في كل نواحي الحياة. هل حصل مرة أن جلست في مطعم "محترم" مع زوجتك محتفلا ً بعيد زواجكما وشاءت الظروف أن تجلس قبالكم عائلة يفوق تعدادها العشرين نفرا ً : أطفالا ً ونساء ً وشبابا ً وشيوخا ً لا ينفكوا عن القهقهة والضّجيج والمناداة على النادل بصوتٍ عالٍ؟ ناهيك عن تدخين السجائر والنرجيلة والقيام من مقاعدهم احتفاء ً بعائلة غوغائية أخرى دخلت لتوها من باب المطعم, وإذ بأفراد العائلتين يتعانقون ويتبادلون القبل الثلاثية فيما بينهم وكأنهم متواجدون في بيوتهم؟ تحاول أن تتجاهل الموقف لكن دون جدوى لأن الغوغاء التي يقومون بها تجعلك تلتفت إليهم إن شئت أم أبيت. وإذا دبّت بك الشجاعة وطلبت من صاحب المطعم أو النادل الإشارة لهم بتخفيف صراخهم، يبتسم اليك ابتسامة صفراوية كأنك هبطت من المريخ، وينتابك شعور غريب بأنه متآمر مع الغوغائيين وكأن المطعم لا يخصه.
الغوغائية تنقض على الحيّز العام وتمتلكه عنوة وبغياب سلطة رادعة تتحوّل الغوغائية إلى ظاهرة عارمة ومهيمنة, ومع الوقت إلى نمط حياة مقبول ومتعارف عليه. تترعرع الغوغائية أيضا ً في المجتمعات التي تسود بها اللامبالاة. يقول المثل الشعبي: "قالوا لفرعون... من فرعنك؟ فأجاب: لم أجد أحدا ً يصدّني..!" إن وجود قوانين وتعاليم وتحذيرات ورجال سلطة يأخذون على عاتقهم إيقاف مثل هؤلاء عند حدِهم قد يخفف من ظاهرة الغوغائية لكنه للأسف لا يقضي عليها لأن مثل هؤلاء مستعدون لدفع ثمن غوغائيتهم. إذا أردتم فعلا التّعرف على مصطلح الغوغائية فراقبوا تصرّفات "عربنا" في الفنادق المصرية والأردنية الخمسة النجوم التي تجبي مائة دولار فقط على الليلة الواحدة. أجيبوني على هذا السؤال ومن بعدها "اقتلوني"، لماذا تظل أبواب غرف المقيمين بالفندق من عربنا مفتوحة على مصراعيها طوال الوقت رغم حساسية الموقف؟ لماذا يقومون بمناداة بعضهم البعض بصوت عال عبر الشرفات, دون حسيب أو رقيب؟ لماذا يتربّعون في الرّدهة الواقعة أمام المصعد "يبحلقون" في الطالع والنازل؟ لماذا يقومون بشرب القهوة من "التيرموس" البيتي في لوبي الفندق وأحيانا عرضها على نزلاء لا يعرفونهم؟
تجد الغوغائية في شوارعنا الزاخرة باللافتات التي استباح أصحابها الحيّز العام وحولوه إلى ملكيتهم الخاصة، فكل صاحب مصلحة ينصب لافته أكبر وأعلى من غيره لكي يستحوذ على انتباه المارّة والسائقين ولا ضير أيضا ً من استعمال المؤثرات المرئية والصوتية فالكل مسموح ومقبول. راقبوا بائعي الخضار والسمك والدجاج والحلويات والخرداوات الذين "يصرخون" على بضائعهم في الميكروفانات بديسيبلات مريعة إلى درجة أنك تضطرك التوقف عن الكلام أمام محدّثك الجالس في صالونك أو أمام من تكلمه بالهاتف. أن ننسى لا ننس الضّجة الصّادرة عن الأفراح والتعاليل التي يصمم أصحابها أن نكون شركاء كاملين بها.
الغوغائية متواجده في صحفنا المليئة بالعناوين الدراماتيكية والصورالمنفّرة وتهاني "شوفوني يا ناس" التي تمتد على نصف صفحة أو أكثر. لا تنسوا الدعايات التجارية التي تضم، بالإضافة الى المنتوجات المعروضة، صورا ً لصاحب المصلحة وشركائه وأرقام هواتفهم العادية والخليوية في المصلحة والبيت. صحفنا مليئة بالعناوين الكبيرة والرنانة وعندما تقوم بقراءة المادة التي تتصدّرها تلك العناوين تجدها ركيكة وتنتقص للموضوعية والمهنية.
الغوغائية موجودة أيضا ً في السّياسة وتنشط في فترة الانتخابات. الكل شهد الضجة الإعلامية والجلبة التي قامت بها جماعة الإخوان المسلمون إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث قاموا بالتجمهر في ميدان التحرير بالفترة التي قامت بها لجنة الانتخابات بفرز الأصوات وراحوا ينشرون ادعاءات على الملأ بأن هنالك محاولة لتزييف الأصوات وتغليب "شفيق" على "مرسي"، وقد هددوا بإقامة الدنيا وإقعادها إذا لم يفز مرشحهم، وتبين من بعدها أن الانتخابات كانت نزيهة ولم يكن مكانا ً للغوغاء التي قاموا بها.
بنظري، الغوغائية هي تعسّف وإلغاء لحقوق الآخرين ولذا فهي تعكس الدكتاتورية والاستبداد وهي قادرة على نشر الفوضى العارمة وحتى الإرهاب. يقول الكاتب جوزيف بشارة الذي يؤمن بطريق المحبة والسلام وحق الحياة للمستضعفين بأن الغوغائية تتخذ في العالم العربي أشكال بشعة عدة، فهي في بعض الأحيان سياسية وفي البعض الآخر طائفية أو حتى عنصرية. حسب رأيه الغوغائية لا تقتصرعلى مجتمع عربي معين، وإنما تنتشر بكافة المجتمعات من المحيط إلى الخليج. ولا تقتصر على جماعة معينة، فالجماعات المتطرفة أو العصابات الإرهابية أو حتى الحكومات الدكتاتورية على حد سواء لا تخجل من أن تمارسها.
لست ادري إذا كانت الغوغائية هي مرضا ً نفسيا ً أم ظاهرة ً أخرى مشتقة من ثقافة الفقر والجهل السائدة في العالم العربي الذي ما فتئ يتخبط بآلام المخاض. للأسف, استقصاء الأسباب وحده لا يقود دائما إلى الحل, لأن الأسباب قد تكون هي بذاتها مشاكل مستعصية قد تكون أصعب من المشكلة الأصلية التي نحاول حلها.