نص محاضرة هيكل في الدوحة: «الخليج.. يوم بعد غد»
الأحد 05-05-2013 21:06 | كتب: المصري اليوم
Share on facebook0 Share on twitter0
تصوير : حسام دياب
قال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل إن المشرق العربى يعيش حالة ولادة متعسرة بين بقايا ماضٍ لم يقتنع بعد بالانسحاب، ومستقبل لم يعرف حتى الآن كيف يتقدم، وعليه فإن ما يجرى عندنا هو شبه عملية انسلاخ مؤلمة من زمان إلى زمان.
وأضاف «هيكل»، فى محاضرة ألقاها بالإنجليزية، مساء الأحد، بجامعة «جورج تاون» بالدوحة، وأعاد كتابتها لـ«المصرى اليوم» بالعربية، إن عملية الولادة أو الانسلاخ تقع على ساحة فيها من يعرف كيف يتوضأ بالدم، لكن ليس فيها من يعرف كيف يصلى صلاة الجماعة، وإلى نص المحاضرة..
إننى أشكركم سيادة العميد على دعوتى متحدثا فى هذا المعهد العلمى الموصول بواحدة من أهم الجامعات الأمريكية، والذى تستضيفه هذه العاصمة التى تضج بالحيوية، وسط هذا الشاطئ الخليجى الممتد بمواقع الطاقة والنور، يرسم على حافة الصحراء خطا اعتباريا وسط قارات وبحار وثقافات وحضارات. وقد استعملت وصف الخط الاعتبارى قاصدا، لأن الخط الاعتبارى ليس فاصلا ولا عازلا، وإنما هو علامة على الخرائط، مثله مثل خطوط الطول والعرض، ترسم ولا تعزل، ومنطقته أقرب إلى أن تكون شرفة عريضة فى امتدادها، ضيقة فى فسحتها، مطلة على الشاطئ الخليجى: وراءها العمق العربى، وأمامها الشاطئ الإيرانى، والفضاء الآسيوى بعده.
ولعلى اقتربت من قضايا الخليج عندما فرضت المتغيرات خلال الستينيات من القرن الماضى على الحكومة البريطانية- بعد استقلال الهند، وبعد زيادة تكاليف سباق الحرب الباردة، وبعد هزيمة السويس سنة 1956- أن تعتمد سياسة «الانسحاب شرق السويس»، ثم قضت الظروف أن أكون واحدا من المفاوضين المصريين مع المقيم العام البريطانى للمنطقة أيامها، السير «ويليام لوس» ثم مع غيره آخرين. وكان مستقبل الخليج مطروحا للبحث تلك الأيام، ضمن الصراع بين الحركة القومية العربية المتقدمة، والإمبراطورية البريطانية المتراجعة، وكانت تلك فترة حافلة بالآمال والطموحات، وعلى أى حال فإنه خلال تلك الفترة ظهر الدور المحتمل الكبير لهذا الخط على الخليج، كما انبثقت الحيوية الهائلة الكامنة فى أهله، وفى دوله التى قامت وشيدت بالعمران ما يتجاوز الخيال فى بعض المواقع.
والشاهد أنه كان عمرانا طموحا، حاول أن يلاحق التقدم بما أتيح له من وسائل، رغم ما حوله من مخاطر، وذلك طبيعى لأن هذا الخط- بموارده وثرواته- واقع بين شاطئين، وراءهما مسافات برية شاسعة، وكتل إنسانية قلقة، وصراعات دولية قديمة وجديدة- وكذلك فهو فى حد ذاته خط يصعب أن يكون سهلا أو ساكنا.
سيادة العميد..
إننى بعد الشكر أواجه سؤالين لابد من وقفة أمامهما:
أولهما، الاعتذار لأنى أعرف أن الجامعات بصفة عامة تؤثر حديث العلم على حديث السياسة، لكن شفاعتى أن حديث السياسة درجات، فهناك حديث السياسة بمعنى صراعات السلطة، وهناك حديث السياسة باعتبارها طروحات للمستقبل، وذلك ما أحاوله قدر ما أستطيع، عارفا أن هناك سوابق نذكرها، وقد نحاول أن نتخذ منها نماذج نحتذيها، وعلامات نسترشد بها رغم اختلاف الأحداث والأقدار، ولعلكم تذكرون محاضرة «ونستون تشرشل» الشهيرة فى جامعة «فولتون» Fulton (ميسورى) سنة 1946، التى لفت فيها الأنظار إلى أن ستارا حديديا ينزل على أوروبا الشرقية.
ودون مقارنة بهذا النموذج الشهير، فإننى- متبعا ومسترشدا- حاولت فى مناسبات عديدة أن تكون الجامعة منبرى لحديث السياسة، عند نقط تحول تصورتها مهمة فى سياسات العرب الراهنة.
فعلت ذلك فى شأن اتفاقية «أوسلو» بين إسرائيل والفلسطينيين، وكان حديثى بشأنها محاضرة فى أكتوبر 1993، بعنوان «أوسلو وأريحا» أولا وأخيرا، وفيها حاولت تحذير الفلسطينيين من أن ما يعتبرونه شبه بداية لحل سلمى، هو- واقعيا- شبه نهاية لقضيتهم!!
ثم كررت التجربة بعد ذلك فى أكتوبر 2002، فى مسألة توريث السلطة فى مصر من أب إلى ابن، وكان قصدى أن ألفت النظر إلى بوادر وإشارات توحى بأن الرئيس المصرى السابق يريد تقليد نموذج شاع فى النظم الجمهورية العربية، يتصورها وراثية.
وفى المرة الأولى بشأن اتفاقية «أوسلو» فإن تحذيرى المبكر لم يُجدِ نفعا، لكنه فى المرة الثانية وبخصوص توريث السلطة فى مصر، فظنى أن التحذير المبكر نبَّه إلى المحظور، واللافت أن حديثى فى المرتين كان فى الجامعة الأمريكية فى «القاهرة»، ثم يجيء حديثى هذه المرة الثالثة فى جامعة «جورج تاون» الأمريكية فى «الدوحة»!!
يجىء الدور على السؤال الثانى، ذلك أننى وقد اخترت موضوعا سياسيا فقد كان المنتظر أن أتحدث عن قضايا المشرق العربى، خصوصا وأننى قادم إلى الخليج من موقع غاطس بالكامل فى المشاكل والعقد؟!!
لكن خروجى عن المنتظر يعود- بالدرجة الأولى- إلى أن شؤون المشرق العربى معروفة لكم ومكشوفة أمامكم، ومحصلتها أننا هناك فى ذلك المشرق نعيش حالة ولادة متعسرة بين بقايا ماض لم يقتنع بعد أن ينسحب، ومستقبل لم يعرف بعد كيف يتقدم، وعليه فإن ما يجرى عندنا هو شبه عملية انسلاخ مؤلمة من زمان إلى زمان، وتلك تجربة عانتها من قبلنا أمم وشعوب، لكن صعوبة الأمر بالنسبة لنا، وخلافا مع تجارب غيرنا، أن هذه العملية بالولادة أو الانسلاخ تقع على ساحة فيها مَنْ يعرف كيف يتوضأ بالدم، لكن ليس فيها مَنْ يعرف كيف يصلى صلاة الجماعة على حد تصوير شاعر فارسى قديم.
ويضاعف من المأزق أن الساحة مستباحة، وأن العالم كله يتدخل، ومن لا يتدخل يتفرج، مستغربا ما يرى، دون أن يمد بصره إلى ما وراء الصور، ليعرف أنه صراع على المستقبل لأمة فاض بها الكيل، وقررت أن تتخلى عن الصمت والسلبية، وأن تهزم اليأس وتنتصر عليه ومع أن بعض الصور الظاهرة على مواقع الأحداث تدعو إلى التخوف والتوجس، فإن الحقائق وراء الصور تؤكد أن الحركة إلى أمام غالبة باستمرار، وأنه إذا كان الماضى أحجارا ثقيلة تعوق، فإن المستقبل أجنحة أقوى تحلِّق!!
حضرات السيدات والسادة..
أنتقل إلى موضوعى الليلة، وإذا سمحتم لى- دون أن أتجاوز خصوصية لقاء- فإننى أتذكر أن صاحب السمو أمير هذه البلاد وصديقنا الكبير الشيخ «حمد بن خليفة آل ثان»- أثار معى مرة ومطولا موضوع مستقبل الخليج العربى وأمنه، وكان ذلك قبل سنوات طويلة، ومن المصادفات أننا كنا يومها فى مدينة الغردقة المصرية، المطلة على شاطئ البحر الأحمر، بينما الشاطئ الآخر لشبه الجزيرة العربية بادٍ أمامنا من بعيد كأنه غيم سحاب، يذكرنا بأن المسافات ليست نائية كما نتصور أحيانا، وأن القضايا ليست منعزلة كما يظن بعض الناس!!
وكان رأيى وقد عرضته:
1- أن الخليج مطمح قوى دولية وإقليمية، وهذه حقيقة.
2- أن بجواره ثلاث دول كبيرة تطل عليه من كل جانب، وهى السعودية- والعراق- وإيران، لكن هذه الدول فى اللحظة الراهنة مشغولة عنه.
3- أن هناك نوعا من التوازن بين احتمال ضغط تمارسه أى من هذه الدول القريبة، وبين مواقف دول غيرها فى العمق العربى، وبخاصة «مصر»، وشمال أفريقيا العربى، ثم «سوريا»، وجوار الشام الواسع.
4- وأن الاهتمام الخاص الأوروبى والأمريكى بالمنطقة قائم وفاعل ودواعيه متعددة: الموقع وإمكانياته، والطاقة وفوائضها، وذلك ضمان حاضر وإن كان ماثلا عند حافة الأفق.
5- وأخيرا فإن الثروة المستحقة والمتدفقة على بلدان الخليج الجديدة تمكِّنها من توسيع دائرة الحريصين عليها ولو بتأثير ما يصل إليهم من فوائضها، وذلك استثمار نافع له مردود قريب وبعيد!!
ومؤدى ذلك أن المخاطر موجودة، لكنها محدودة، وتقديرى وقتها أنه فى تلك اللحظة ليس أمام الأطراف غير أن يتابعوا بعناية وأن يراقبوا بحرص!!
ومنذ ذلك الحديث قبل سنوات فى «الغردقة»، امتلأت أشرعة السفن فى الخليج برياح قوية، وصلت فى بعض الأوقات إلى درجة العاصفة، وطرأت أحوال، وتغيرت معادلات وتوازنات.
سيادة العميد..
حضرات السيدات والسادة..
أستطيع أن أعدد أمامكم مجموعة طارئة وخطرة من المتغيرات وقعت وأثَّرت على المعادلات والتوازنات فى الخليج.
أولها: أن فضاء منطقة شمال ووسط الشام وحتى تخوم شبه الجزيرة العربية شهدت وتشهد دمارا واسعا إنسانيا وعمرانيا وثقافيا، وإذا لم يكن علينا الآن أن نتحدث فى أسباب هذا الدمار، فإننا مطالبون على الأقل بتدبر نتائجه، وأخطرها أن هناك فراغ قوة خطيرا، وفراغ سلطة مخيفا نشأ حول الخليج، وذلك- بدوره- سوف يستدعى أشكالا وألوانا من الاضطراب والفوضى غير محكومة وغير منضبطة.
ثانيها: أن ما وقع فى «إيران» حتى من قبل الثورة الإسلامية- ثم ما وقع بين «إيران» و«العراق» عقب تلك الثورة الإسلامية- ثم ما استحكم بعد ذلك من فتن مذهبية بين «سنة» و«شيعة»- وجدت مَنْ يشعل النار فيها بشحنات من التوتر- تلاقت جميعها مع نوازل الفوضى على الجوار الغربى، ثم زاد أن وقوعها جاء قريبا من ساحة براكين نشطة مرئية من الخليج، وعلى مسمع منه فى «باكستان» و«أفغانستان».
ثالثا: لقد كان شائعا لعقود طويلة أن العمق العربى داخل، وربما متداخل فى الشأن الخليجى وهذا طبيعى، ثم وقع خلال السنوات الأخيرة أن الخليج أصبح داخلا ومتداخلا فى العمق العربى، وهذا بدوره طبيعى، على أن للطبيعة مواسمها، فلقد حدث تدخل وتداخل الخليج متوافقا مع وقوع زلازل اجتماعية وسياسية وفكرية عنيفة، والزلازل لها توابع، والتأهب للزلازل صعب، والاستعداد للتوابع كذلك، وفى الحالتين فإنه يصعب التكهن بدرجات الارتجاع والتساقط، وهذه فى الطبيعة ظاهرة فيها من المجهول أكثر من المعلوم، وهى كذلك فى السياسة!!
رابعها: أن الكثافة الإنسانية فى قلب شبه الجزيرة العربية تزداد بمعدلات لفتت نظر دارسين وخبراء، بينهم مَنْ رأى أنه فى ظرف ما بين خمس عشرة إلى عشرين سنة- فإن تعداد «السعودية» سوف يصبح خمسين مليونا من البشر- و«اليمن» نفس القياس، أى أن كتلة سكانية من مائة مليون إنسان سوف تملأ سعة الجزيرة العربية وتفيض، وهذا الامتلاء مطلوب، لكنه شأن أى امتلاء له فعل إزاحة، ثم إن مطالب المستقبل لهذه الكتل الإنسانية المتضخمة فى «السعودية» و«اليمن» قد تزيد كثيرا عن الموارد المتاحة- بصرف النظر عن حجم الفقر أو الغِنى- كما أن رياح التغيير، وضمنها وسائل التواصل الاجتماعى الجديدة سوف تطرح مطالبات مُلِحَّة ومتصاعدة متشوقة إلى الحق والحرية!!
خامسها: أن النفط العربى على وشك أن يتنازل عن سطوته، ولا أقول أهميته، فهناك اكتشافات تبدو غزيرة فى أفريقيا وآسيا وفى أعماق البحر والمحيط، كما أن هناك جهودا مكثفة يبذلها العلم والتكنولوجيا، ويعززها عالم صناعى لا يريد زيادة اعتماده على مصدر رئيسى للطاقة، وقد رأينا هذا العام بالتحديد أن الولايات المتحدة الأمريكية خفضت وارداتها من نفط الشرق الأوسط بنسبة 40%، اعتمادا على تكنولوجيا استخراج النفط من «الطَّفْل».
ومن المفيد تذكرة أنفسنا أحيانا بأن النفط سلعة إستراتيجية لا تختلف كثيرا عن سلع أخرى سبقتها عبر القرون، حتى وإن بدا لنا أن النفط مجال صراعات خفية تضفى عليه غموضا من نوع ما!!
وصحيح أن القرن العشرين يمكن اعتباره قرن النفط، إلا أن هناك قرونا سبقته أخذت توصيفها من سلع أخرى غيره!! فالقرن الخامس عشر مثلا كان قرن التجارة بين الغرب والشرق، وكانت سلع الشرق وأهمها التوابل حافز الكشوفات الجغرافية الكبرى وقتها، وقد فتحت هذه الكشوف طريق «رأس الرجاء الصالح» إلى الهند حول أفريقيا، والأهم أنها وضعت أمريكا- شمالها وجنوبها- على خريطة المعمورة، وهذا أهم حدث فى العالم ربما منذ بداية التاريخ!! وكان القرن السادس عشر قرن الذهب والفضة من العالم الجديد، حتى لقد سُمى ذلك الزمن بأسره- بالذات فى إسبانيا والبرتغال- بالقرن الذهبى.
وكان القرن السابع عشر هو قرن السكر والعبودية، فقد كان العبيد أهم لوازم قرن السكر وطاقته وعضلاته، وفى ذلك القرن فإن جزر «الكاريبي» كانت مركز الصراع العالمى الأكثر سخونة، ومصدر أكبر الثروات، والمدهش وحتى هذه اللحظة أن أفخم القصور فى الريف الإنجليزى تظل حتى الآن شاهدا على أساطير الثروة من قرن السكر والعبودية!!
وتتنوع السلع و(توابعها) تعطى أوصافا للقرون من القطن (ومعه الغزل والنسيج)- إلى الحديد والفحم (ومعه السكك الحديدية)- إلى البترول (ومعه السيارة والطائرة والقمر الصناعى)، حتى جاء القرن الحادى والعشرون، ومن الواضح أمامنا أنه سيكون زمنا يتخطى بمنجزاته قرن النفط الذى سبقه، ومن ثم يضع الذهب الأسود فى موقعه الطبيعى، صناعة ضمن الصناعات وسلعة ضمن السلع- مطلوبة بإلحاح وضرورية، لكن طلبها ليس مسألة حرب أو سلام!!
سادسها: أن أمامنا حركة ملحوظة على مسار الصراع الإمبراطورى العالمى، وبمقتضاها فإن بؤرة هذا الصراع تتجه بسرعة نحو أقصى الشرق الآسيوى.
وإذا قلنا- والقول صحيح- أن الإمبراطورية هى وطن واسع بالموارد، وقاعدة إنسانية متماسكة، وطاقة اقتصادية متفوقة، وإمكانية عسكرية متحققة، وخروج إلى الساحة العالمية حتمى- إذن فإن هناك بروزا إمبراطوريا لقوى عُظمى جديدة، ومع ظهورها فإن بؤرة السباق الإمبراطورى تمشى حاليا فى اتجاه المحيط الهادى.
وفى التاريخ القريب فقد كان الأطلنطى- ومنذ اكتشاف «أمريكا»- هو بؤرة الصراعات الإمبراطورية.
ثم أصبحت «أوروبا» بؤرة للصراعات الإمبراطورية، من «نابليون» إلى «هتلر»!!
ثم ازدحم البحر الأبيض بأساطيل حولته إلى بؤرة للصراعات الإمبراطورية بعد ظهور الاتحاد السوڤيتى، وحتى انتهاء الحرب الباردة.
ولفترة من الفترات بعد الثورة الإسلامية فى «إيران»، وحتى ما سُمى بـ«الربيع العربى»، فقد تنقلت بؤرة الصراع الإمبراطورى فى المنطقة ما بين البحر الأحمر ومنافذه، إلى الخليج العربى ومضايقه.
ثم يتبدَّى أمامنا أخيرا أن بؤرة الصراع الإمبراطورى تنتقل إلى الشرق البعيد حيث بدأ الظهور الضخم لـ«الصين»، إلى جانب العودة المتجددة لـ«اليابان»، بينما «الهند» تحاول اجتياز الامتحان.
ويلوح وكأن الزمن القادم سوف يكون على الأرجح آسيويا، بمقدار ما كان سابقه أمريكيا، والأسبق منه أوروبيا.
مع ملاحظة جديرة بالاهتمام هنا، مؤداها أن القوة الإمبراطورية لم تعد إرثا حصريا ينتقل بمواجهات السلاح الكبرى، وإنما هى الآن أقرب إلى سباق مفتوح بالتتابع، حتى وإن بدا السباق فى بعض اللحظات تدافعا واحتكاكا- وربما أخطر!!
حضرات السيدات والسادة..
ليس هناك عقل رشيد يتصور الآن إمكانية حروب عالمية، ومع ذلك فإن التحسب لازم لأن هناك على الشرق من الخليج هذه اللحظة خمس قوى نووية: فهناك الولايات المتحدة بحاملاتها وقواعدها، وهناك الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية، وجميعها قوى نووية معلنة، ثم إن بعضها لديه خلافات كامنة كما هو الحال بين «باكستان» و«الهند»- و«الهند» و«الصين»- و«الصين» و«اليابان»، ثم إنه من ضمن هذه القوى طرف فى «كوريا الشمالية» قد يدفعه تشديد الحصار حوله إلى مجازفة غير محسوبة لكسره!!
يُضاف إلى ذلك أن هناك إمكانية نووية علمية- وإن تكن غير جاهزة عمليا على الفور لدى «اليابان»- مهما قيل لنا عن نفور الشعب اليابانى من الأسلحة النووية، كما أن هناك احتمالات نووية كامنة فى «كوريا الجنوبية»، وفى «أستراليا»!!
أى أن هناك زحاما نوويا كثيفا على الشرق من الخليج.
فإذا تذكرنا أن غرب الخليج عليه مواقع نووية أخرى: فى «إسرائيل»، وإلى حد ما فى «إيران»- إذن فإن «تركيا» أغلب الظن لن تقبل لنفسها عُريا نوويا.
ومع علمنا جميعا أن الغطاء النووى لأى قوة ليس قابلا للاستعمال بسهولة، فعلينا الاعتراف بأن القدرة عليه أفضل ضمان للوقاية ضده نفسيا وعمليا- بصرف النظر عنه أخلاقيا!!
وخشيتى أن الزمن القادم- وعلى الرغم من كل القيود والمحاذير- سوف يشهد انتشارا نوويا، حتى وإن لم يكن هدفه عسكريا، وقد نتذكر أن البلد الذى جئت إليكم منه (وهو مصر) كان يملك فى أوائل الستينيات من القرن الماضى مشروعا للأبحاث النووية، ومشروعا لصناعة الصواريخ، وكان الهدف تحصيل علوم الذرة والفضاء، وليس السلاح ومدى وصوله- مع إدراك بأن العلوم مفاتيح يملك أصحابها أن يفتحوا بها الأبواب إلى حيث طلبهم وقدرتهم على ما يطلبون!!
حضرات السيدات والسادة..
إن ذلك يقودنا بالتداعى إلى أزمة عاجلة تحوم حول الخليج، وعواصفها الآن تتجمع وإن كان موعد هبوبها ينتظر، وأعنى بذلك احتمال ما يمكن أن تصل إليه أزمة المشروع الإيرانى النووى.
فهذا المشروع وفى ظرف مدة قد لا تتجاوز آخر هذا العام، واصل إلى نقطته الحرجة على جسر أزمة.
وهناك احتمالان لا ثالث لهما:
- إما أن يتمكن المشروع الإيرانى من تحقيق وعده ويصل.
- وإما أن تستطيع إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية أن تنفذ وعيدها وتضرب.
وفى الحالتين: نجاح الوعد أو تنفيذ الوعيد، فإن كل حالة منهما لها آثار ولها نتائج سياسية وإستراتيجية.
ويلفت النظر أن بعض القوى السياسية فى الخليج تبدو مطمئنة إلى أن ضربة الوعيد الإسرائيلى الأمريكى ضد «إيران» سوف تكون جراحة نظيفة تنزع شوكة قد تكون مسمومة!!
وتلك مبالغة فى التفاؤل جامحة، ذلك أن عواقب الضربة- حتى وإن جرت جراحة بالمنظار- سوف تنشأ عنها مضاعفات لا تكفيها مضادات حيوية نعرفها أو نبحث عنها!!
ويستحق الاهتمام هنا أن إلحاح الولايات المتحدة على حصار وتغيير النظام فى «إيران»، له علاقة وثيقة بصراع القرن الآسيوى، ذلك أن الهضبة الإيرانية هى المرتكز الإستراتيجى البرى لأى تحرك نحو الشرق، فهذه الهضبة هى القاعدة الخلفية للسباق الإمبراطورى الجديد فى الشرق الأقصى، وعقدة المواصلات إلى القوقاز والبلقان وروسيا حتى سهول أوكرانيا، وقلب أوروبا حتى سفوح جبال الألب، وكذلك إلى قلب الشرق الأوسط، وأيضا إلى الخليج بشواطئه وبحاره ومضايقه!!
سيادة العميد..
من الواضح أمامنا أن أوضاع الخط الافتراضى لشطآن الخليج تغيرت شرقا وغربا، كما اختلت توازناته، وعليه فهذا الخط الافتراضى معرَّض لأن يتحول إلى خط احتكاك أمنى وسياسى وإمبراطورى، وهنا يبرز سؤال المستقبل بالنسبة للخليج وأمنه!!
ونحفظ جميعا تعبيرا مأثورا منطوقه أن أهل مكة أدرى بشعابها، وهذا صحيح بشكل عام- ثم هو أكثر ملاءمة للأحوال الراهنة مع زيادة درجة الحساسية التى طالت العلاقات العربية- العربية، وكذلك الخليجية- الخليجية وحيث نحن الآن.
ففى مراحل سابقة كان أى عربى يملك فرصة الفتوى فى أى شأن عربى بمقتضى قاموس فقه سياسى تجمع وتراكم عبر تجربة قومية حافلة، ومع أن مداخل ذلك القاموس وتعريفاته كانت فى حاجة إلى مراجعات بالفرز والتدقيق، إلا أن التعرض لذلك القاموس العربى جاء بتمزيق صفحاته وبعثرتها، وكذلك لم تعد هناك مراجع معتمدة- فضلا عن مرجعيات لأى فتوى أو اجتهاد!! ولسوء الحظ فإن المشروع السياسى العربى يبدو فى هذه اللحظة أطلالا تلوح من بعيد «كباقى الوشم فى ظاهر اليد»، على حد تعبير الشاعر الجاهلى القديم.
وكذلك فإن أهل الخليج، وهم الأدرى بشعاب «مكة» عليهم أن يسبقوا إلى الفحص والدرس والجواب على سؤال المستقبل، فإذا شاءوا أن يفتحوا باب الاجتهاد لغيرهم، فسوف يجدون معهم كثيرين، وفى كل الأحوال فإن توصيف عناصر أى مشكلة تظل خطوة مهمة فى البحث عن حلها.
وفى النهاية فإن كفاءة وجسارة الفكر الإستراتيجى لأهل الخليج أمامها تحدٍ كبير، وإذا كان هناك ما يقوله لهم أى صديق فهو التذكير بأن أى تفكير فى المستقبل- أى مستقبل- لا يمكن أن يجىء من خارج المكان والزمان، أى من خارج الجغرافيا والتاريخ!!
والمكان الذى أعنيه هو هذا الخط المتوهج بالأضواء على الشاطئ العربى للخليج وموقعه، وتركيبته الإنسانية والثقافية، ورؤاه لمستقبله!!
والزمان الذى أتحدث عنه ليس هو «الآن»، ولا الغد، وإنما ما بعد الغد وحقائقه وضروراته الحاكمة فوق الجميع!!
شكرا لكم كريم صبركم!!