الموسوعة الشاملة
www.islamport.com
الكتاب : مجلة البيان (238 عددا) المؤلف : تصدر عن المنتدى الإسلامي [رقم الجزء ، هو رقم العدد . ورقم الصفحة ، هي الصفحة التي يبدأ عندها المقال في العدد المطبوع] تنبيه : الأعداد بعد الـ 200 محملة من شبكة الإنترنت ، فترقيمها غير موافق للمطبوع ، وأيضا العدد 220 ناقص جدا
|
هموم ثقافية
التنمية في المجتمع الإسلامي
بين الأصالة والمعاصرة
د . خلف خلاف الشاذلي
تُعرّف التنمية بأنها عملية تهدف إلى رفع مستوى معيشة أفراد مجتمع معين
على المدى الطويل ، معتمدة بالدرجة الأولى على الإمكانيات الذاتية لهذا المجتمع ،
مع تقدير واع للعوامل الخارجية ، وذلك عن طريق دعم مقدرة المجتمع على القيام
بوظائفه الإنتاجية ، وتحقيق أفضل استثمار لإمكانياتها المحلية .
ولقد انبهرت الدول النامية ، ومنها الدول العربية والإسلامية بالتجربة الغربية
في التنمية ، وما حققته هذه التجربة من إنجازات سريعة ، ومن ثم فإنها رأت
ضرورة أن تحذو حذو هذه الدول إذا ما أرادت تحقيق التنمية المرجوة وظلت تعتقد
في صلاحية النماذج والنظريات الغربية لفترة طويلة ، لتكتشف في آخر الأمر أن
النماذج التنموية الخارجية ، شرقية أكانت أو غربية ، لم تكن تهدف إلى خدمة هذه
المجتمعات ، ومنها المجتمع العربي المسلم ، بقدر ما كانت تهدف إلى استمرار
استنزاف تلك المجتمعات ، وتؤكد تبعيتها لتلك الدول الأجنبية .
وأمام انهيار مصداقية عمومية وثبات النماذج التنموية والنظريات الغربية
وعدم تمتعها بالقدسية من ناحية ، والأزمات التي أخذت تتعرض لها عمليات التنمية
في بعض الدول ذاتها التي أخذت تطبق تلك النماذج لسنوات طويلة من ناحية أخرى ، بات من المؤكد عدم وجود نموذج للتنمية معد سلفاً في جملته وتفاصيله يصلح لكل
الأزمنة ولكل المجتمعات ، وذلك أن التنمية عملية مجتمعية تخضع لظروف كل
مجتمع وخصائصه المميزة .
وقد ركزت استراتيجيات ومداخل التنمية في معظم الدول النامية ، ومنها
الدول العربية ، على أهمية التحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث وكان
الاتجاه السائد في هذه الدول قائماً على محاكاة النموذج الغربي في التنمية دون فهم
لأسس بناء هذه النماذج ، ومدى ملاءمتها للواقع والظروف الموضوعية التي تعيشها
هذه المجتمعات .
وتبلورت على الساحة الفكرية في مجتمعنا المسلم تيارات ثلاثة هي :
1- تيار التغريب الذي انبهر أنصاره بالغرب ، وتبنوا الدعوة إلى ضرورة أن
نصبح غربيين في كل شيء ، وراحوا يدافعون عن قيمة الثقافة الغربية بل والتغني
بصلاحيتها ، وفي الوقت نفسه ينظرون إلى الثقافة الأصيلة على أنها « موضة »
قديمة لم يعد لها قيمة جمالية ، على الرغم من أنه كثيراً ما تعود « الموضة »
القديمة لتصبح « موضة » جديدة في حقبة تالية .
2- تيار الرفض لكل جديد أياً كان ، تحت تأثير العصبية للموروث ، وذلك
من خلال العمل على إحياء التراث والتمسك به لضمان الوجود المتميز والمستقل .
3- أما التيار الثالث ، فهو تيار الوسط ، الذي يرفض أنصاره التقليد الأعمى
والنقل الحرفي عن الحضارة الغربية ، وفي الوقت نفسه يرفضون الجمود والانغلاق .
ويقوم منهج هذا التيار على المزج بين القديم والحديث ، أو بين الأصالة
والمعاصرة : أصالة عصر ازدهار الحضارة الإسلامية والمعاصرة التي يحكمها
واقع الأمة ، والاستفادة من حضارات الآخرين ، استفادة الراشد الذي يُميز بين ما
يتسق مع تميزه الحضاري ، وبين ما يؤدي إلى طمس الهوية الحضارية وانطلاقاً
من الثقة بقدرة هذا التراث على استيعاب معطيات الحديث من ناحية والتفاعل معه
من ناحية أخرى .
وفي هذا الإطار طرحت قضية الأصالة والمعاصرة نفسها على بساط البحث
والمناقشة ، وترددت أسئلة كثيرة في هذا الشأن ، وتعددت حيث إن كلاً من الأصالة
والمعاصرة تظلان مفهومين محايدين حتى تصبحان إطاراً مرجعياً للتنمية في مجتمع
من المجتمعات ، فبينما تشير الأصالة إلى الارتباط بالتراث المحلي ، نجد أن مفهوم
المعاصرة يشير إلى الارتباط بمناهج عصر الصناعة ومنجزاته .
... وعموماً فإن مفهوم التحديث يرتبط بفكرة الصياغة الغربية للثقافات
المحلية دون اعتبار لمضامين تلك الثقافات ، وهو بذلك يعتبر مفهوماً منحازاً لثقافة
المجتمع الغربي .
مخاطر التحديث :
تقوم فكرة التحديث على إحلال الثقافة ، والنظم الاجتماعية والاقتصادية
الغربية محل الثقافة والنظم الأصيلة ، وقد سيطرت توجهات التحديث على معظم
سياسات التنمية ، في الدول النامية ، ومنها المجتمع العربي الإسلامي باعتباره في
زعمهم الحل الوحيد والأمثل لمشكلات التخلف ، وهو تفسير عنصري وقاصر
للتخلف ، ويغفل جانباً كبيراً من الأسباب الحقيقية للتخلف وأخذت عمليات التحديث
تمتد إلى جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، بل والتربوية والثقافية
أيضاً ، لتأخذ شكل الغربية أو التغريب .
والتحديث على النمط الغربي علاوة على ما فيه من مخاطر على الدين هو
كارثة في شؤون الدنيا ، حيث يجعل من المجتمع العربي الإسلامي مجتمعاً هامشياً ،
ويُكرس من تبعيته للخارج ، وتلك هي الغزوة الاستعمارية الحديثة فلقد أصبحت
عملية التنمية من خلال محاكاة النموذج الغربي بمثابة أداة لنقل ثقافة المجتمعات
الصناعية المتقدمة إلى المجتمعات الأقل تقدماً ، مؤدية بذلك نفس الدور الذي سبق
وأن أدته أيدلوجية التقدم في القرن التاسع عشر في كل من أمريكا اللاتينية وبعض
دول الشرق الأوسط وإفريقيا ، عندما حاولت هذه الدول تبني أساليب وسياسات
اقتصادية تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي ، متجاهلة بذلك الموروثات الثقافية
والتراث الحضاري القائم .
* إنه في ظل التحديث ، على النموذج الغربي ، قد يصبح المجتمع متقدماً من
ناحية استهلاكه للسلع والخدمات ، دون أن يتحول إلى مجتمع متقدم من الناحية
الإنتاجية ، ويؤدي ذلك إلى الازدواجية الخطيرة على مستقبل التنمية في هذه
المجتمعات ، وهي ما نراها اليوم في كثير من المجتمعات النامية ، من حياة
إستهلاكية على الطراز المتقدم ، وحياة إنتاجية على نمط التخلف ، حيث تقدمت هذه
المجتمعات في مجال الاستهلاك ، بينما تخلفت أو بقيت على حالها في مجال الإنتاج .
* إن التحديث على النموذج الغربي يشكل خطراً على الثقافة المحلية والتراث
الأصيل والأبنية الاجتماعية والاقتصادية القائمة ، حيث تصبح تلك المجتمعات
أسيرة للقيم والأنساق الثقافية ، وكذا الحلول التكنولوجية والأبنية الاجتماعية
والاقتصادية الدخيلة ، كما أنها تصبح أيضاً أسيرة لتطلعاتها الاستهلاكية وعجزها
الإنتاجي .
* إن الدعوة إلى التطوير والتحديث ، القائم على محاكاة النموذج الغربي في
التنمية ، لا تعد أن تكون دعوة للاحتواء والتبعية ، وتجسيداً للتشوه الحضاري الذي
يهدد مجتمعاتنا ، وفقداناً للثقة بالقدرة على الابتكار والتجديد .
* إن التحديث على النموذج الغربي ينطوي على مضامين أيدلوجية ، مادية
وعلمانية ، ووجودية وبرجماتية ، تشكل خطراً على المجتمع الإسلامي بخاصة
حيث تبدو في ظاهرها الرحمة وفي باطنها يكون العذاب .
* وأخيراً فإن قضية الفكر الهدام ليست قضية محدودة بوقت معين ، ولكنها
كانت وستظل مطروحة طالما أن هناك صراعاً بين الحق والباطل ، وقد يختلف
الطرح في صوره وأشكاله ، ولكنه ثابت في أهدافه وغاياته والتحديث على طريقة
النموذج الغربي في التنمية إنما هو شكل آخر من أشكال الفكر الهدام .
لا للتغريب :
لم تكن المشكلة تكمن بالكامل في المداخل أو النماذج التنموية المستوردة ذاتها ، والتي ربما تكون قد نجحت في الدول التي نشأت فيها ، بل تمثل القصور
الأساسي في أن عمليات التحديث في مجتمعاتنا لم تكن نابعة من الواقع الاجتماعي
والثقافي الأصيل ، فعلى عكس التنمية في كثير من المجتمعات الغربية ، نجد أن
العوامل الأساسية التي دفعت إلى التغيير في مجتمعاتنا بدأت مع اختلال التوازن
التقليدي الأصيل ، بفعل عوامل خارجية متضمنة في عملية التحديث والتحضر
والتصنيع على غرار النموذج الغربي في التنمية ، وأصبحت عمليات التنمية بذلك
أسيرة عوامل خارجية غير متأصلة ، حيث أخذت عمليات التحديث شكل التغريب ،
وأصبحت هذه المجتمعات تسير بوعي أو بغير وعي نحو التبعية ، التي طالما تسعى
هذه المجتمعات إلى التحرر من إسارها .
والحقيقة أن التبعية أصبحت تمثل واقعاً بسبب ما نحن فيه من تأخر وشقاق
فقد كنا متبوعين أيام كنا أقوياء ، ونحن نتهم الغرب بأنه يجرنا إلى التبعية والحقيقة
أننا نتبعه لأننا نشعر بأننا بحاجة إلى تقدمه وعلومه ، وصار أخشى ما نخشاه أن
يؤدي ذلك إلى تغلغل أشكال التبعية إلى مجتمعاتنا نتيجة النقل الحرفي ، وعمليات
المحاكاة العمياء لكل ما تهب به رياح الغرب دون إمعان النظر فيما أكان هذا مناسباً
لنا أم لا .
هل نقول (لا) للمعاصرة ؟ !
... لا تعني الأصالة في ارتباطها بالتراث المحلي ، الجمود والتقوقع ذلك أن
التراث يضم الموروث الحضاري بأجمعه ، ويحتوي على جانبين :
الأول : ثابت ويجب الحفاظ عليه ، ويتضمن اللغة والدين والقيم والتنشئة
الاجتماعية ، والثاني : متغير يمكن التعامل معه كجزء من الحياة الحاضرة .
فالأصالة بذلك لا تعني مطلقاً كما قد يتصور بعضهم الانغلاق على الذات في
العلوم أو التقنية التي أصبحت ضرورية ، ولكنها تعني إعادة النظر في النماذج التي
لقنها الغرب تلقيناً والتعامل معها بوعي ، بل ومحاولة تجاوزها بمعطيات جديدة ،
ولا تعني أن ندير ظهورنا تماماً للتطور الحادث بالفعل من حولنا ، ولكن تعني
الدراسة المتأنية لاختيار ما يناسبنا ويدعم الهوية الحضارية والخصوصية الثقافية
لمجتمعنا العربي الإسلامي ، ويؤكد أهمية التواصل الحضاري والتاريخي بالنسبة
لهذا المجتمع .
فهل نقول الحضارة قذارة ، بحجة أنها حضارة الغرب ، ونغمض أعيننا تماماً
عن ما يحدث من حولنا من تطور ؟ ! إن القول بنعم للمعاصرة يعني التفاعل مع
الحضارة ويعني أيضا الحرص على امتلاك القوة بكل الصور ، وهذا أمر مهم
لإقرار الحق والعدل في الكون ، وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ، فالحق يحتاج إلى
قوة تحميه وتفرضه . وحضارة اليوم هي حضارة مادية بكل المقاييس ، تقوم
بالدرجة الأولى على العلم التجريبي .
وعلينا باعتبارنا مجتمعاً إسلامياً أن نأخذ بناصية العلم الذي هو السبيل إلى
امتلاك عوامل القوة المادية ، وبخاصة تلك العلوم التي تتجاوز الحدود الدولية التي
ليست حكراً على مجتمع بعينه ، وهي تلك العلوم الطبيعية التي تتعلق بدراسة المادة
وخواصها ، وقد أخذ الغرب نفسه الكثير من النظريات العلمية عن العرب
والمسلمين الأوائل أمثال : ابن الهيثم والرازي ... فلماذا لا نأخذ عنهم في هذا
المجال ؟ ! ذلك أن التقنية في حد ذاتها ليست موجبة أو سالبة ، ولكن طبيعة
المجتمع ومدي تماسك مؤسساته هما العاملان اللذان يجعلانها سالبة أو موجبة في
تأثيرها ، ومن ثم فإن الحل لا يكون عن طريق الانغلاق على الذات ، ولكن يكون
عن طريق العمل على سد الثغرات ونقاط الضعف التي قد تظهر في المؤسسات
الاجتماعية والتي تفرزها التقنية الحديثة أو الانفتاح على العالم الخارجي .
(76/29)
الصفحة السابقة // الصفحة التالية