الدولـة في فكرنا العربي الإسلامي المعاصر
تركي علي الربيعو*
http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=62
احتدم الجدل في خطابنا العربي/ الإسلامي حول إشكالية الدين والدولة، والجدل كما يقول ابن منظور هو شدة الاختلاف، ولكن القرآن الكريم يدعو إلى جدال بالتي هي أحسن، فعسى أن تجنى الفائدة للأمة كلها، ومع احتدام الجدل تكثر التساؤلات وما أكثرها في مجال نقد الذهنيات كما يقول المفكر المغاربي عبد الله العروي، وبالأخص إزاء تاريخ بعيد للدولة وللعقل السياسي العربي، لم نستدل عليه بالكيفية اللازمة، ولا يزال يغري بشتى أنواع التأويل والأدلجة التي تعبر عن نفسها تحت رايات إيديولوجية لا تزال تستعير معظم بواعث التعبير عن نفسها من الماضي البعيد كما يرى محمد أركون، لنقل من التاريخ الأموي والعباسي، الذي تحولت فيه الخلافة إلى ملك عضوض راح بدوره يستعير معظم بواعث التعبير عن ملكه من المستبد الآسيوي بحسب تعبير العروي، أو من أبيه أردشير (الملك الساساني) بحسب توصيف محمد عابد الجابري في بحثه عن مبدأ الطاعة. فقد ذهب الجابري إلى أن ذلك جعل من الدين طاعة رجل، كما جعل من الطاعة عبر تمجيدها فضيلة الفضائل، وقد تمكن من أن يغزو الثقافة العربية في عقر دارها ويجيرها لصالح ذلك الطابع الآسيوي كما تعبر عن ذلك وصية أردشير التي سنعود إليها لاحقا(1).
هناك إقرار علني عند أغلب الباحثين العرب في إطار إشكالية الدين والدولة، بأن الجذور الكلاسيكية للنقاش الدائر حول الروابط بين الدين والدولة غير مدروسة، وبالتالي غير مضاءة (2). يقول العروي: "عندما نتكلم اليوم عن الدولة الإسلامية نعني بالضرورة مركّبا من العناصر الثلاثة – العربي والإسلامي والآسيوي – إلا أننا لا نستطيع أن ندرك ذلك المركب وهو محقق في التاريخ لأننا لا نملك شهادة معاصرة عليه. كل ما نستطيع هو أن نتصوره، أو أن نتخيله، اعتماداً على أخبار مؤرخين متأخرين نسبياً"(3).
إن غياب الشهادة المعاصرة للدولة الإسلامية في بداية العصرين الأموي والعباسي، هو الذي فسح المجال للتأويلات العديدة والتضييقية التي تنتهي إلى القول بأن الإسلام دين ودولة، المقولة التي رفع راياتها في أربعينيات القرن الماضي الشيخ والإمام حسن البنا، والتي استلهمتها الحركات الإسلامية الراديكالية في سعيها، وفي تجييشها لإيديولوجيا الكفاح ضد الاستعمار التي ساهمت في طمس كل المحاولات الرامية إلى الفصل بين الذروتين الدينية والسياسية، أو تلك التي تصر على أن الدولة شأن تدبيري سياسي وليس شأناً عقيدياً كما تراها الكثير من الحركات الراديكالية المعاصرة أو الإيديولوجيات الجاهزة التي ما تزال تعشعش في "ثقافة العامة" والتعبير للشيخ علي عبد الرزاق، وتحول دون الوصول إلى أصول جديدة للحكم، تستمد قوتها من أحدث ما أنتجته العقول البشرية وما أبدعته الأمم الحديثة.
كان الشيخ علي عبد الرازق الذي سيستعاد دوما من قبل التيار الليبرالي العربي كنموذج للشيخ المستنير، وكقرينة وشاهد على بطلان القول بأن الإسلام دين ودولة كما يرى تيار الإسلام السياسي. أقول كان الشيخ عبد الرازق على وعي بإشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وعلى وعي بالآفاق الحديثة للدولة المعاصرة التي من شأنها أن تقطع مع إرث الدولة المملوكية، وأن تؤسس لأصول جديدة في الحكم. من هنا، فقد كان كتابه، وعلى ما جاء به من أفكار أصيلة وطريفة وجدية وجديدة، قد مثل إعلاناً عن تفجير المعركة الفكرية السياسية داخل الاجتماع الإسلامي التقليدي(4) فهو يعيب على "المسلم العامي" وعلى "رأي جمهور العلماء من الإسلام" اعتقادهم بأن الإسلام يمثل وحدة سياسية ودولة أسسها الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المسلم العامي هو من يعتقد أنه عليه السلام كان رسولاً وملكاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية مدنية، كان هو ملكها وسيدها. لعل ذلك هو الرأي الذي يتلاءم مع ذوق المسلمين العام. ولعله أيضاً هو رأي جمهور العلماء من المسلمين. فإنك تراهم إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع، يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية، ودولة أسسها النبي"(5).
يقر عبد الرازق في سعيه للتأكيد على أن السياسة شأن تدبيري وليست شأناً عقيدياً "أن الحكومة النبوية كان فيها بعض ما يشبه ما يكون من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطنة والملك"(6) وأن "هناك الكثير مما يمكن اعتباره أثراً من آثار الدولة"(7) ولكنه يفند الرأي الذي يرى أن الإسلام دين ودولة، وأن "الخلافة تنوب عن الشرع في حفظ الدين والسياسة شاملة للملك والملك فدرج تحتها"، كما كان يرى ابن خلدون، الذي لم يكن يستند، كما يرى عبد الرازق إلى حجة أو دعامة أو سند(
والنتيجة التي يقودنا إليها:
أولاً ـ"ما كان محمد -صلى الله عليه وسلم-، إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين. لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة".
ثانياً ـ"وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها".
ثالثاً ـ وإنه كان -صلى الله عليه وسلم- " كإخوانه الخالين من الرسل".
رابعاً ـ وإنه لا كان ملكاً ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك(9).
لا يمل عبد الرازق، من تفنيد الاحتجاج الشائع بأن "الخلافة مقام ديني" ويرى ذلك على أنه من الأخطاء الشائعة التي تسربت إلى عامة المسلمين، الذين خيل إليهم أن الخلافة مركز ديني، وأن من ولي أمر المسلمين فقد حل منهم في المقام الذي كان يحله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا بل إنه يعتبر أن استمرار هذا الاعتقاد يصلح لأن يكون شاهداً على استقالة العقل عند المسلمين في التفكير السياسي، والنظر في كل ما يتصل بشأن الخلافة والخلفاء(10).
أعود للقول، إن الشيخ عبد الرزاق يرى أن السياسة شأن تدبيري، وهذا ما يجب عليها أن تدركه ما يسميها بـ"الزعامة الجديدة" التي يلح عليها عبد الرازق، والتي هي في جوهرها زعامة سياسية "زعامة الحكومة والسلطان، لا بل زعامة الدين"(11). وهو بذلك إنما يفتح باباً للمسلمين إلى ولوج عالم أصول الحكم، كما يشير إلى ذلك عنوان كتابه. يقول في خاتمة كتابه: "أن لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم"(12). ولكن أصول الحكم هذه كانت موضع استنكار الشيوخ الأزهريين الذين هاجموه وجردوه من ألقابه العلمية ومن وظيفته وكذلك الراديكاليين الإسلاميين الذين لم يغفروا للشيخ علي عبد الرازق هذا التطاول فراحوا يصفونه بأنه دعوة للانفكاك عن النص الديني لصالح تبعية الغرب والاندماج به(13)، وذلك دون أن ننسى إعجاب شيوخ آخرين به، وأخص بالذكر منهم الشيخ ابن باديس الذي أبدى إعجابه بالشيخ عبد الرازق وبتجربة كمال أتاتورك في بناء الدولة الحديثة، واصفا إياه"بأنه أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث وعبقري من أعظم عباقرة الشرق"، وذلك دون أن ننسى أيضاً مرافعات الشيخ خالد محمد خالد في دفاعه عن عبد الرازق وذلك في كتابيه"من هنا نبدأ، 1951" و"الديمقراطية أبدا، 1953" اللذان هاجم فيهما الدولة الدينية وراح يشيد بديمقراطية الإسلام0(14)
وكان أواسط عقد الخمسينيات من القرن المنصرم قد شهد تجاذباً حاداً بين الأحزاب والتيارات السياسية والمثقفين العرب، فثمة من يرى أنه لا يمكن للأمة أن تنهض إلا بفصل الدين عن الدولة وجعله أمراً خاصاً بين العبد وبارئه وذلك انطلاقا من رؤية ليبرالية ترد تخلف الأمة إلى الاستبداد(15)، وثمة من يرى أن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف كما ذهب إلى ذلك الشيخ حسن البنا في قوله الشهير:"الإسلام:عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(16) فالدولة من خلال آرائه هي دولة إسلامية، بصورة أدق، هي دولة الدعوة ودولة الرسالة لأن "الدعوة أساس الدولة، والدولة حارس الدعوة، وهما معا قوام الحياة الإنسانية الصحيحة المستقيمة(17).
في هذا السياق جاءت محاولات فكرية عديدة لفض الاشتباك بين الدين والدولة والتأسيس لحداثة سياسية ولمجال سياسي جديد بعيدًا عن المجال الديني، أو زيادة الالتحام بينهما من خلال القول بأن الدولة حارسة للدين وحامية له وأن الهدف هو بناء الدولة الإسلامية، أو التوفيق بين هذا وذاك على اعتبار أن التوفيقية تمثل جوهر الحضارة العربية كما يذهب إلى ذلك محمد جابر الأنصاري في بحثه عن حقيقة التوفيقية في حياتنا العربية المعاصرة(18). وقد شهدت العقود الثلاثة المنصرمة من القرن الماضي نقارًا حادًا بين المفكرين والمثقفين العرب حول سلم الأوليات: الدين أم السياسة أو التوفيق بينهما كما أسلفنا، نقارا يشهد على حيوية فكرية في بعض الأحيان وفي أغلبها على عقلية تخوين واستبعاد بقيت تستبطن الخطاب السياسي العربي في سعيه إلى بناء مجال سياسي جديد؟
الدولـة كافلـة الديـن
راح هشام جعيط يبدي الكثير من القلق على مستقبل الدين في الدولة العلمانية العربية، وذلك من موقعه كمعاين حصيف لعلاقة أوروبا بالإسلام كما يشهد على ذلك كتابه الموسوم بهذا الوسم (أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة)، وعلاقة أوروبا بالدين والتي اعتبرت نموذجاً للقياس وليس للاستئناس كما يرى الجابري في نقده للخطاب العربي المعاصر، وبخاصة عند الليبرالي العربي الذي لا يزال ينظر إلى الفصل بين الدين والدولة باعتباره شرطا للنهضة(19)، رأي جعيط الدولة العلمانية القومية هي دولة دهرية تقوم على تفوق الدولة على الدين. فالدولة في منظور جعيط الذي يستند إلى رؤية ابن خلدون دون أن يصرح بذلك هي كافلة الدين وحافظة لاستمراره، وليس من حقها أن تكون علمانية كما يطمح إلى ذلك المثقفون العرب العلمانيون. فالدين الإسلامي لم يكن ولن يكون مسألة خاصة، إنه دين الأمة، الذي لا يجب أن يكون مجرد صورة كاريكاتيرية -والتعبير لمحمد أركون- كما فعلت "الكمالية" الأتاتوركية(20).
ثم راح هشام جعيط نفسه في كتابه " الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، 1974" والذي سيصفه العروي لاحقاً بأنه " أهم ما أنجز في مجال النفسانية الجموعية العربية"(21) ويقصد بالنفسانية هنا فكرة الفرد والجماعة عن الحكم والدولة، وفي إطار بحثه عن العلاقة بين الدين والدولة يكتب: إن رأينا هو أنه يجب على الإسلام البقاء كدين للدولة، بمعنى أن الدولة تعترف به تاريخياً، وتهبه حمايتها وضمانها "ويضيف" ليس للدولة أن تكون علمانية بمعنى أنها لا تهتم بمصير الدين معتبرة إياه مسألة خاصة"(22). من هنا نفسر رفضه لأن يكون الدين أداة تتلاعب بها الدولة وذلك لغايات سياسية أو إدخال إصلاحات داخلية عليه من لدنها، يقول جعيط "ينبغي تجنيبها ذلك لأن الدين قضية تهم الأمة الإسلامية قاطبة، أمة الأمس واليوم، وغداً"(23).
انطلاقاً من أن الدولة العربية القديمة (دولة بني أمية ودولة بني العباس) كانت كافلة لاستمرارية الدين، فإن جعيط كما أسلفت ينذر الدولة العربية القائمة بحسب تعبير العروي، إلى حماية الدين والحفاظ على استمراره، وهو هنا يبدي مزيداً من المخاوف وهواجس الحاضر وشواغله الإيديولوجية والظرفية الجامحة التي من شأنها أن تقطع مع الدين وتراثه التليد. هذه المخاوف التي تعود بجذورها إلى العصر العباسي والتي عبر عنها ابن عقيل وابن الجوزي، فثمة مخاوف حقيقية من طغيان السياسة على الشريعة وعدم التزام الحكام بالشريعة(24، 25).
لم يكتف جعيط بذلك، فراح يؤكد في بحثه عن "بناء الدولة الإسلامية: الدولة النبوية" من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك وراءه دينًا ودولة0 يقول جعيط: ترك النبي عند وفاته ديناً مكتملاً ودولة مهيمنة على الجزيرة العربية كلها، مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك. فمن خلال اعتناق الإسلام وممارسته، لا سيما الصلاة والزكاة، تم انصياع الأفراد والجماعات للدولة الجديدة، وقد دخل مسلمو الساعة الأولى، المتأثرون بدعوة كانت تخاطب الأفراد أولاً، دخولاً طبيعياً في نظام الدولة. فالوظيفة النبوية تؤلف بين الدنيوي والقدسي، بين العالم المرئي والعالم اللامرئي. ويقوم سلطانها على كلام الله مثلما يرتكز على التوجيه الفعلي للأمة. ولا شك أن العرب ما كان يمكنهم، لولا الحركة النبوية، أن يتوحدوا ولا أن ينتظموا ويرتفعوا إلى درجة أخلاقية أرفع. وبالتالي ما كان يمكنهم الدخول في التاريخ. وعلى هذا النحو، كانت النبوة تطرح نفسها كأمر يمد بأخلاقية وبوحدة وبمصير"(26).
لا يتصور جعيط إمكاناً لنهضة عربية بعيدة عن الإسلام، فالدولة العلمانية العربية المعادية أو الداعية إلى فصل الدين عن الدولة، تخالف التاريخ (لأن وظيفة الدولة كما رأى ابن خلدون هي حفظ الدين وسياسة الدنيا) وتخون جوهر الحضارة العربية الإسلامية. ولكن على ما يبدو فقد جعيط إيمانه بروح الأجداد التي غذاها حيناً في كتاباته المؤدلجة، فراح يتحدث لاحقاً ومع مطلع الألفية الجديدة عن نهضة جديدة يمكن لها أن تمثل عودة باتجاه الحداثة الغربية التي من شأنها أن " تمج الإسلام جملة ". وذلك في معرض حديثه عن "أزمة الثقافة الإسلامية"(27).
مفهوم الدولـة
بين نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم، وبداية عقد الثمانينات، كان العروي الرجل الملتزم بمغامرة النهضة العربية على حد تعبير هشام جعيط الذي تبادل والعروي فيضاً من التقريض(28). قد فقد إيمانه بالنخبة المثقفة وقدرتها على عقلنة المجتمع العربي بكيفية شاملة ومسترسلة، وبالتالي فإن المثقف الذي يتشكل بتأثير خارجي، أقض مضجعه، بمزاجه العكر وتقلباته المستمرة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار(29)، وفي هذا السياق الذي يتحرك فيه هذا " العروبي التاريخي" والوصف أيضاً لجعيط (30) راح العروي يوسع من إطار ما يمكن تسميتها باستراتيجيته التاريخانية، فأصدر سلسلة المفاهيم (مفهوم الأدلوجة، 1980 ومفهوم الحرية1981 ثم مفهوم الدولة1981 ومفهوم التاريخ 1993 وأخيراً مفهوم العقل 1996) وذلك انطلاقاً من رؤية ترى أن الفهم والإفهام أساسيان ولكنهما لا يتأتيان إلا بوضوح المفاهيم التي يؤدي غيابها إلى كل هذه التخبطات في خطابات المثقفين العرب.
إذن، مع بداية عقد الثمانينات من القرن المنصرم، جاء كتاب العروي " مفهوم الدولة، 1981 " عسى أن يؤسس لما سّماها ميشيل فوكو بـ"إرادة المعرفة " التي غابت وتزحزحت لصالح " إرادة الإيديولوجيا " التي تدمغ وتمهر معظم خطابات المثقفين والتي تشهد على " أزمة المثقفين العرب، 1974 " التي راح العروي يرصدها مع بداية مطلع السبعينات من القرن المنصرم(31).
في تمهيده للكتاب، يقول العروي: كل منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية، أو بعبارة أدق، تجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة الدولة لأن الدولة هي الوجه الموضوعي القائم في حين أن الحرية تطلع إلى شيء غير محقق"(32). من هنا مصدر قوله إن "التفكير في الحرية هو بالأساس تفكير في الدولة والمجتمع"(33).
يؤثر العروي في تناوله لمفهوم الدولة وإشكالياتها ومنحاها الإيديولوجي في الخطاب العربي المعاصر، أن يرتفع إلى مستوى التجريد، فيتكلم عن الدولة إطلاقاً، أي عن الشكل العام لتنظيم السلطة العليا في الدولة العربية على طول مسارها، بحيث تنتفي الصفات العرضية، المذهبية والقبلية والجنسية. باستثناء صفة واحدة هي الصفة الإسلامية(34). وهنا يتساءل العروي: ماذا نعني بالدولة الإسلامية؟ وبالتالي على أية مادة نعتمد لنتصور واقعها التاريخي ونحلل آلياتها وجهازها؟ ومن وجهة نظره، إن الاتجاه الذي يجعل من الدولة تجسيداً للمثل الأعلى، لنقل للإسلام الحق، هو اتجاه مثالي وإيديولوجي بان ولا ينفع في مجال الدراسة، صحيح أنه يعبر عن همٍ عام وعن تشكيلة اجتماعية وعن وضع سياسي، فيقدم حلاً لا يعدو أن يعكس المشكلات القائمة. فلا يهتم بالراهن وبالتالي غير كائنة. وهذه مثالية مطلقة كما يرى العروي. تتوه في البحث عن الدولة كما يجب أن تكون، لا عن الدولة كما هي في الواقع(35). ومن هنا فهو يرى أن القول بأن الإسلام دين ودولة ينتمي إلى الطوبى، إلى المؤلفات الشرعية والمؤلفات الإيديولوجية اللاحقة للحركات الإسلامية التي تتحدث عن الدولة كما يجب أن تكون، لا عن الدولة كما هي واقع. أضف إلى ذلك " أن العبارة – الإسلام دين ودولة – هي وصف للواقع القائم منذ قرون كما يرى العروي، أي لحكم مملوكي ودولة مملوكية حافظت على الدين وقواعد الشرع لأسباب سياسية محضة"(36)، والعروي يلمِّح إلى أمر آخر، فمقولة " الإسلام دين ودولة " تقوم على واو الربط الدال على التساكن بين الدين والدولة وليس على الاندماج والانصهار. من هنا وجه المقارنة العجيبة في خطابات بعض الإسلاميين. فهم يظنون بالقول إن الإسلام دين ودولة أنهم يعبرون عن خصوصية الإسلام، في حين أنهم يصفون الإمارة الشرعية ولا يتعرضون في شيء للخلافة. من هنا فإن القول بأن " الإسلام دين ودولة " لا يعبر عن واقع مختلف، فالنصرانية بحسب تعبير العروي، أو الغرب بحسب تعبير محمد أركون وهذا ما يجمعهما في نقدهما لهذه المقولة، هما دين ودولة، أو ليست النصرانية ديناً يعيش بجانب دولة في نطاق مؤسسة مستقلة؟(37).
ما يجمع العروي بهشام جعيط، هو إدراكهما التاريخي للسياق الذي جاءت فيه مقولة الإسلام دين ودولة، فثمة ظروف تاريخية قادت إلى القول بأن الإسلام دين ودولة، والجديد من وجهة نظر العروي "أن المقولة كانت آنذاك، أي في عصر الغزو الاستعماري الحديث للمنطقة العربي (أوائل القرن الثامن عشر) ضرورية ومطابقة للمصلحة القائمة(38). فقد لاحظ الفقهاء وعلى مدى قرون طويلة في ظل الدولة الإسلامية انفصال الشرع والعدل عن العمران، في حين أن التجربة الأوربية التي باتت نموذجاً يحتذى هي شاهد على ارتباط العدل بالعمران، فتنادوا إلى القول بضرورة الربط بين التقدم والعدل الذي لا يتحقق إلا بالشرع؛ لأن العدل بالشرع والشرع بالعدل(39). والعدل يعني تقييد الحاكم بقواعد الشرع. وقد وجد الفقهاء في ذلك فرصة للمطالبة بالرجوع إلى السياسة الشرعية وإلى الدولة الشرعية العادلة التي من الممكن لها أن تتجاوز أزمة الحكم المملوكي التي انتهت إلى آفاق مسدودة، وأن تمهد القاع للرد على التحديات الغربية، وهذا هو موقف مصلحي القرن الثامن عشر الذين راحوا يبحثون عن " أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك " كما يشهد على ذلك كتاب خير الدين باشا التونسي، والذي يجمعه بعلي عبد الرزاق هو هذا البحث عن " أقوم المسالك " أو" أصول الحكم " كما يراها عبد الرزاق(40).
كان العروي على وعي بمأزق الدولة القائمة حالياً في الوطن العربي وبمأزق المثقفين معاً، ومن وجهة أخرى بمأزق السلفيين الذين ظلوا مشدودين إلى طوبى الخلافة والسياسة الشرعية دون أن يطرأ على مواقفهم أي تغيير وبمأزق الليبراليين الذين التقوا مع السلفيين على نقد الدولة القائمة دون أن يجدوا السير باتجاه البديل، وما يضاعف من قلق العروي على مستقبل الأمة، أن معظم الأسئلة التي تدور من حول الدين والدولة وما أكثرها في مجال نقد الذهنيات، تصطدم بالجدار الصلد للدولة المملوكية المستمرة، وما يضاعف من القلق تلك الحالة من التساكن والتعايش بين الفقهاء والدولة المملوكية المستبدة، لنقل بين طوبى الخلافة وما رافقها من طوباويات عن المدينة الفاضلة وبين واقع الدولة. كذلك بين المثقفين العرب المشدودين إلى طوبى الليبرالية أو طوبى الماركسية وحتى طوبى الدولة العربية الكبرى التي أضعفت الدولة القطرية ولم تنجز الدولة الكبرى وبين الدولة الاستبدادية الحديثة، والعروي لا يعجب من ذلك " فالمفكرون العرب لا يهتمون بالدولة القائمة " والأهم من ذلك غياب علم سياسي يبحث في اجتماعيات الدولة، فهذا العلم لا يزال مهجوراً كما يرى العروي وذلك في مجموع البلاد العربية وما يؤسف له أن ما أنجز من دراسات في هذا المجال تمَّ في إطار معاهد أجنبية(41). وهذا ما يرجِّح من كفة الفقهاء على حساب المفكرين والمثقفين العرب الذين ظلّوا يجهلون الدولة وهنا يقرر العروي أن المفكرين الوطنيين متخلفون وكذلك رواد النهضة، في مسائل السلطة، عن معاصريهم الفقهاء وأن العلامة الفارقة لأبحاثهم هي "غياب نظرية الدولة " في فكرهم، وهذا ما يفسر من وجهة نظره تلك الاكتشافات المتوالية لابن خلدون والتعبير له والعجز بنفس الوقت عن تجاوزه(42).
في محاولة من العروي، للقطيعة مع الطوباويات السائدة عن الدولة (طوبى الخلافة والطوباويات الماركسية والليبرالية يدعونا العروي إلى نظرية في الدولة "تقطع مع الدولة الاستبدادية التي ما تزال سائدة، وتؤسس بنفس الوقت لما يسميها بـ"الدولة الحق" التي هي اجتماع وأخلاق، قوة وإقناع (هنا يركز العروي كثيراً على أن الدولة التي لا إيديولوجيا لها تضمن درجة مناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها لا محالة مهزومة"(43) وهذه الدولة تقوم على القواعد التالية:
ـ لا نظرية حقيقية بدون تفكير جدي في أخلاقية الدولة.
ـ إذا لم تجسد الدولة الأخلاق بقيت ضعيفة.
ـ إضفاء الأخلاق على دولة القهر والاستغلال غبن.
ـ تحرير الدولة من ثقل الأخلاق حكم عليها بالانقراض(44).
أعود للقول، إذا كان التفكير في الحرية هو بالأساس تفكير في الدولة والمجتمع، فإنه يمكن القول إن نظرية الدولة عن العروي، التي تربط الأخلاق بالسياسة، والعدل بالتقدم، إنما هي دعوة للقطيعة مع الدولة المملوكية المستبدة والتأسيس للحرية، وبنفس الوقت تقوية جهاز الدولة باعتبارها أداة التقدم والتحديث، شرط أن تكون الدولة بخدمة المجتمع وليس المجتمع بخدمة الدولة، وهذا ما يفسر تساؤله مع بداية الألفية الجديدة في بحث له عن "إرث النهضة وأزمة الراهن": هل عرف أي قطر عربي في أية فترة من تاريخه حالة تسبيق المجتمع على الدولة؟ أو حالة توظف فيها قدرات الدولة لتأسيس المجتمع على شكل يؤهله للاستغناء لاحقاً وبالتدريج عن كثير من صلاحيات تلك الدولة؟"(45).
على العكس مما يشتهي العروي، فقد شهد عقد الثمانينات احتلالاً صهيونياً لبيروت عاصمة الثقافة العربية، وعايش هذا العقد حروباً أهلية وثورات جياع امتدت على طول الساحة العربية، وخاضت هذه الدولة أو الدولة القائمة بحسب تعبير العروي، حروباً ضد المجتمع انتهت بتدمير المجتمع، وبدا للعيان ذلك الاستقطاب الحاد بين الرافعين لشعار "الحاكمية" وكما فهمه المتبصرون من المسلمين على حد تعبير رضوان السيد(46) وأن الإسلام دين ودولة، وبين القائلين إن الإسلام دين وأن الدولة شيء آخر.
في هذا السياق جاء كتاب محمد عمارة ليقدم إجابة توفيقية تشهد على سمة الخطاب السياسي الإسلامي في سعيه إلى تلطيف الإجابة بهدف طمأنة الليبرالي العربي وتهدئة مخاوفه من الدولة الدينية التي طرحتها الحركات الإسلامية الراديكالية بعنف، والتي راحت تنعت القومية العربية كرابطة سياسية بأبشع النعوت، معتبرة إياها صنماً فكرياً وبديلاً ممقوتاً عن فكرة الخلافة الإسلامية التي من شأنها أن تؤسس لإقامة الدولة الإسلامية الكبرى(47).
في كتابه "الدولة الإسلامية: بين العلمانية والسلطة الدينية، 1988" والذي يحيلنا عنوانه الفرعي إلى ذلك الاستقطاب الحاد بين العلمانيين الذين يؤكدون على أن الإسلام دين وليس دولة وبين القائلين ـ وهم هنا رواد الحركات الإسلامية الراديكالية ـ بأن الإسلام دين ودولة. أقول بين هذا وذاك، راح عمارة يسوق أمامه مجموعة من التعريفات والمفاهيم ليذكي في الختام رؤيته التوفيقية ونتائجه التي طبعت الخطاب الإسلامي في العقود الأخيرة كما يرى الجابري في تحليله للخطاب الإسلامي، فمع إقراره بأن قضية السلطة الدينية هي قضية " قديمة ـ جديدة " فعمارة يرى أن السلطة الدينية التي تعني " أن يدَّعي إنسان يتولى منصباً دينياً أو سياسياً أو مؤسسة فكرية أو سياسية ما لنفسه صفة الحديث باسم الله وحق الانفراد بمعرفة رأي السماء وتفسيره، وذلك فيما يتعلق بشؤون الدين أو بأمور الدنيا.."(48) هو رأي غريب على الفكر الإسلامي الذي لا يقره وذلك باستثناء الشيعة، فكل تيارات الفكر الإسلامي ومذاهبه تنكر وجود السلطة الدينية(49). وإذا كان عمارة لا يقر بوجود السلطة الدينية في الإسلام، فهو يرفض بنفس الوقت أن تكون العلمانية هي الحل. فالاستقطاب الحاد بين العلمانية والسلطة الدينية، هو شاهد على غربة " المصلح والثوري العربي والمسلم"(50) عن واقع أمته الإسلامية وبقائه مرتهناً، بوعي منه أو بغير وعي، للحضارة الأوروبية الغازية. يقول عمارة: عندما نواجه القلة من "علماء" الدين الإسلامي الذين جعلوا من أنفسهم "كهنة ورجال دين" فإننا لا نواجههم "بالعلمانية"، التي تعزل "الدين" عن الدولة، وإنما نواجههم "بالإسلام: الدين"، الذي ينكر الكهانة والسلطة الدينية، والذي لم يحدد للمسلمين نظاماً معيناً ومفصلاً في الحكم، أو في السياسة أو في الاقتصاد؟ … والذي ـ في ذات الوقت ـ لم يدر ظهره لأمور الدنيا وشؤون الدولة، وإنما وضع القواعد العامة والأطر المرنة، والقوانين الكلية، ثم أطلق للعقل والتجربة العنان ليضعا النظم والقوانين والنظريات المتغيرة دائماً والمتطورة أبداً، وفق المصلحة، وعلى ضوء هذه المثل والكليات(51) فالعلمانية ليست سبيلنا إلى التقدم(52).