منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولصفحتنا عبر الفيسبوكمركز تحميل لكل الإمتدادات
منتدى قالمة للعلوم السياسية يرحب بكم
تنبيه:إن القائمين على المنتدى لا يتحملون أي مسؤولية عن ما ينشره الأعضاء،وعليه كل من يلاحظ مخالفات للقانون أو الآداب العامة أن يبلغ المشرف العام للمنتدى ، أو بتبليغ ضمن قسم اقتراحات وانشغالات
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» المحاضرة الثالثة لمادة تاريخ الفكر السياسي
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء أكتوبر 09, 2024 8:21 am

» المحاضرة الثانية لمادة تاريخ الفكر السياسي 2024/2025
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:37 pm

» المحاضرة الأولى لمادة تاريخ الفكر السياسي 2024/2025
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:29 pm

» برنامج محاضرات الفكر السياسي 1
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:24 pm

» عام ينقضي واستمرارية في المنتدى
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الإثنين مايو 27, 2024 10:25 am

» امتحان تاريخ الفكر السياسي ماي 2024
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الإثنين مايو 27, 2024 10:19 am

» امتحان مادة علم الاجتماع السياسي ماي 2024م
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء مايو 15, 2024 9:33 am

» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2024م
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الثلاثاء يناير 16, 2024 8:08 pm

» الإقرار وفق القانون الجزائري
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس مايو 11, 2023 12:00 pm

أنت زائر للمنتدى رقم

.: 12465387 :.

يمنع النسخ
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Ql00p.com-2be8ccbbee

 

 منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Empty
مُساهمةموضوع: منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي   منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي Emptyالجمعة أبريل 26, 2013 8:56 pm

العدد: 004 > بحوث ودراسات

منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي

ابو منير إيريك وينكل
يمكن تفسير التحولات المنظورية في علم السياسة (ما بين الخمسينيات والثمانينيات) بصورة أفضل في سياق المواجهة مع الآخر، وهي مواجهة مرت بأطوار ثلاثة. الأول: تصوير الآخر بصورة واثقة من نفسها، وكانت تلك سمة الحداثة؛ أما الثاني: الخوف من الآخر والرغبة في التحكم فيه، وتلك هي سمة نهاية الحداثة؛ أما الثالث: فيتمثل في الإدراك المفرط للآخر وتتفيهه، وتلك هي سمة ما بعد الحداثة.
وقد وقعت هذه المواجهة مع الآخر في سياق خطابي أو معرفي أوسع، وذلك ما يقتضي النظر في التحولات المعرفية كذلك.
التحولات المنظورية Paradigm Shift
يتظمن مفهوم المفكر الفرنسي ميشال فوكو Michel Foucault للحفريات القول بأن الأنساق العلمية صحيحة في إطارها الخاص بها؛ وهكذا فإن أية طائفة من المعطيات التاريخية ينبغي الحكم عليها وتقييمها حسب الطور التاريخي الذي تنتمي إليه والإطار الذي تندرج فيه. وقد التقط توماس كون Thomas Kuhn فكرة الإطار التاريخي والنسبية الثقافية هذه وأعاد تقديمها في نظريته عن الثورات العلمية، وإن كان قد فعل ذلك بصورة أقل صقلاً وتعقيداً من فوكو. يرى كون بحق أن الكتب العلمية الجامعية تمثل التاريخ المعترف بصحته للعلوم الاعتيادية المعيارية (Normal science)، وينطوي هذا النمط من الكتابات العلمية على الخرافةِ القائلة بأن العلوم تتبع مساراً تراكميا مطرداً في نُموها.

فالعقلية الأسطورية التي تهيمن على الكتب العلمية الجامعية ترسم لنا تاريخ الإنسان الأبيض العظيم وتدون تجاربه الكبرى وهو يحشد طاقاته في المسيرة الزاحفة للتقدم العلمي. وفي هذا الإطار، يبين كون أن ديناميكا أرسطو أو الديناميكا الحرارية السعرية علمية ومتماسكة داخلياً، وهي لذلك صحيحة، شأنها شأن الديناميكا أو الديناميكا الحرارية المعاصرة لنا.
وهكذا يستوي علم الفلك المتمحور حول الأرض وعلم الفلك المتمحور حول الشمس صدقاً وصحة من حيث "توافقهما" مع الطبيعة. وما يحدث هو أنه عندما تتغير الأسئلة المطروحة تثور أسئلة جديدة محدِثةً توتُّراً في منظومة علم الفلك المتمحور حول الأرض، وذلك من شأنه أن يستتبع تحولاً منظورياً (أو ثورة). وبطبيعة الحال، فإن العلماء المهتمين بالمنظور الجديد يقنعون أنفسهم لأن المنظور القديم كان خاطئاً، وعندئذٍ يبدأون في الإسهام في أسطورة الكتب الجامعية مبرزين أن العلم يتقدم في حركة صاعدة أبداً. وهكذا تظهر خرافاتٌ أخرى مشابهة تَصِم بيسر قروناً عديدة بأنها عصور مظلمة أو بأنها –على أفضل تقدير- عصور وسطى مؤسِّسةً بذلك مشروعية العصر الحديث بوصفه عصرَ النور، وذلك على حساب العصور الأخرى. ويصف فريدريك جيمسون Frederick Jameson هذا الولع بالتحقيب -بحق- بأنه علامة مميزة للحداثة.
إن الآلية التي حددها كُون بوصفها ثورةً علمية آليةٌ سلبية وغير ضارة. فاستخدامه المكثف لصيغة المبني للمجهول في وصف بنية الثورات العلمية يكشف عن رؤيته الساذجة وغير النقدية للتقدم العلمي. فما يسميه "المخطط الرائع المحكم والبسيط لعملية الاكتشاف العلمي" يتم حصوله عبر تجربة/لعبة الأوراق غير المتجانسة. وهذه التجربة/اللعبة تتمثل في عرض سلسلة من الأوراق –بعضها شاذ (مثل الورقة6 ذات البستونة الحمراء)- لمدة وجيزة من الزمن. وعند تحريك الأوراق بسرعة خاطفة، يكون بإمكان المشاهد أن يحدد الأوراق غير المتجانسة بسرعة وثقة، ولكن بصورة خاطئة. ولا يساور هذا المشاهدَ الشكُّ فيما رأى إلا عندما يعطى وقتاً أطول للنظر إلى الأوراق؛ وبعض الناس بإمكانه أن يرى أن الورقة شاذة فعلاً، بينما يظل آخرون في حيرة عاجزين عن تحديد الورقة الشاذة. إن هذه التجربة/اللعبة تقول لنا الكثير عن أحوال النفس وعن كون نفسه، ولكنها لا تقول لنا شيئاً عن الثورات العلمية؛ ومع ذلك فهي القوة الوحيدة التي يحددها كون بصورة جلية على أساس أنها عامل التغير المنظوري والثورة العلمية.
إن الأنساق العلمية –كما يمكن البرهنة على ذلك- هي السبل الصحيحة للنظر إلى العالم، وهي بهذا الاعتبار، صحيحة أيضا داخليا. هذه هي النتائج التي توصل إليها فوكو في دراسته لنشأة الطب العيادي في العصر الحديث وفي حفرياته المعرفية . ويضيف كون إلى ذلك أن الأنساق العلمية –من حيث علاقتها الخارجية بالعالم– صحيحة طالما أنها تقدم حلولاً وأجوبة للأسئلة المطروحة. ومع ذلك فإنه عندما تتغير الأسئلة المثارة يضطرب المنظور، بحيث يمكن للعلم المعتاد normal science أن يفسح المجال أمام الثورة التي تؤسِّس وضعها المعتاد الخاص بها. وتتمثل الآلية التي يقترحها كون لحصول ذلك في أن شخصاً ما يكشف، بإمعان النظر بصورة أو بأخرى في واقعة معينة، شذوذاً كان قد جرى من قبلُ تشخيصُه بصورة صحيحة، ولكن تمت تنحيتُه جانبا خطأ، ومن يدشّن علماً جديداً. إن هذا لأمر سخيف، وهو دليل قاطع على أن كون نفسه غارق في عالمه الأسطوري الذي شيدته الكتب الجامعية، شانه شأن العلماء الممارسين للعلم المعتاد. إن المفتاح للتحول المنظوري هو التحول في القضايا والأسئلة المطروحة، وهذه بطبيعة الحال واقعةٌ اجتماعية وسياسية. إلا أن كون يتجاهل السياسة تماماً ويبدو غير قادر على إدراك أن المجتمعات تفرز أسئلة ومشكلات تتطلب إجابات وحلولاً. فهو ما يزال يعيش في عالم دافئ ومريح يمكن التضحية فيه بأي شيء، بل بأي إنسان، على مذبح التقدم العلمي للغرب.
إن الشذوذ الضئيل المتناهي الصغر، الذي لا يكاد يُدرَك إلا أن نكون غير غارقين نشوةً في أساطيرنا وأوهامنا، هو التوافق بين المجهود العلمي واحتياجات سلطة الدولة. فعلم المسار المنحني (للمذنبات) وحركة القطع المكافئ، مثلا، يتوافق مع حروب المدفعية في أوروبا ويجد تفسيراً جيداً له في الفكر الماركسي أو الفكر النقدي المتطرف على حد سواء. فكون القسم الأكبر من الأبحاث العلمية تموِّله الدولة ويجد تطبيقاً عسكرياً فورياً لنتائجه هو نفسه إحدى حالات "الشذوذ" هذه؛ وأن يَمنح سلاحُ البحرية (في الولايات المتحدة) مبلغ 113ألف دولار لإجراء أبحاث على الحمام الزاجل يبدو عملاً بريئاً بصورة معقولة، ولكن الهدف الذي يرمي إليه سلاح البحرية هو -في الحقيقة- البحثُ عن طرق للاتصال في أعقاب حرب نووية . وكذلك فإن استكشافات ستيفن هوكنغز Stephen Hourkings في مجال الجاذبية -وهو بحث له من الأهمية المستقبلية المحتملة ما كان لنظرية أينشتاين في النسبية العامة- قد اشترتها ودفعت تكاليفَها وزارةُ الدفاع الأمريكية (البنتاغون). وقد يكون هوكنغز ذا رغبة في اكتشاف أسرار كوْن بدون إله، وهو هدف علمي معقول تماماً؛ غير أن ما يريده البنتاغون هو معرفة كيفية اختلاف الجاذبية من مكان لآخر عل سطح الأرض، وذلك حتى تستطيع تحقيق درجة أفضل لدقة صواريخها وقذائفها. وهكذا فللعلماء أن يرقصوا كيفما شاؤوا، ولكن لا بدا من أن يدفع أحد الثمن.
إنه يكاد من المستحيل أن يجد المرء مثالا واحداً للأبحاث العلمية " الخاضعة" في الدوائر العلمية الغربية، ويكاد يكون من المستحيل كذلك العثور على بحث يسير وفق خطة لا تتناغم مع القوة المتعاظمة للدولة إلا أن كون يرى –على الرغم من ذلك- أن حالات الشذوذ تلك أمر خفي ومن ثمّ فهو لا يجد غضاضة في الاعتقاد في الاعتقاد في الخرافة القائلة بأن العلم يسير على نحو ما، دون أن تكون له علاقة بالسياسة أو الاقتصاد والعلماء الذين يشيرون إلى مثل هذا الشذوذ يتم إسكاتهم، مهما كان من ارتفاع أصواتهم في العقد السابع من هذا القرن (مثل نووتني Nowotny وروز Rose وليونتين Lewontin وكامين Kaminوسواهم ممن يرمون تحرير العلم.
ولو أن رؤية كون لبنية الثورات العلمية كانت صحيحة حقاً، إذا لكان للعلماء الذين تم إخمادُ أصواتهم أن يستريحوا وأن ينتظروا حتى تُصبح حالات الشذوذ ظاهرة للعيان، فيتم بذلك تدشينُ علم معتاد جديد. أمّا وأن يكون هذا العلم المعتاد الجديد سيكون في موقع المعارضة لسطوة الدولة واستغلال الشعوب وإهدار البيئة، فإننا على يقين من أن كتب التاريخ في المستقبل لن تنص –بصيغة المبني للمجهول التي يستخدمها كون- على أن زيداً أو عمروا من العلماء قد اكتشف كيف كان يتم تحريف وظيفة العلماء من خدمة الإنسانية إلى خدمة سلطان الدولة، وكيف أن علماء آخرين ضاعفوا من تجاربهم مدشنين بذلك العلم الجديد للتحرر والانعتاق. ومن ثمة فنظرية كون يعوزها المؤشرُ السياسي، وهي كذلك خاطئة فيما تقدمه من وصف وتصوير لحركة العلم. ونظراً لفقدانها البعد السياسي، فهي كذلك مخطئة في تنبؤاتها ، ولو أن كون كان على حق فيما ذهب إليه، لأدت حالات الشذوذ هذه إلى تغيير العلم؛ ولكن لما كان يعوزه البعد السياسي في تنظيراته، فهو لا يستطيع أن يدرك أن سلطة الدولة ستواصل التمسك بخرافة التقدم حتى تبقي على الرابطة بين القوة والمعرفة قوية، وحتى تخمد لأصوات الاحتجاج الداعية إلى علم يسوده العدل.
ولكي نضع هذا التفسير للقاء مع الآخر في إطار منظوري لعلم السياسة، لننظر في مقالة ريتشارد أشلي Richard Ashle، التي تمثل محاولة للنقد الذاتي داخل المدرسة الواقعية. يرى أشلي أن الواقعيين (أمثال الجدد كينث والتز Kenneth waltzوستيفن كراسنر Stephen Krasner وروبرت جيلبن Robert Gilpin وجورج مودالسكيGeorge Modelski وروبرت تكر Robert Tucke وتشارلز كند لبرغر (Charles Kindle Berger فقدوا قدرة المنظور الواقعي بسبب تحولهم إلى نـزعة "دولتية" statist ونفعية ووضعية وبنيوية. وعلى الرغم من أن أشلي من الراسخين في علم السياسة، وعلى الرغم كذلك من حرصه على النقد البناء، إلا أن الذين ردوا عليه كانوا على قلب رجل واحد لجهوده. فلننظر في حجة أشلي والنقد الموجه إليه، ولنضع –من بعد ذلك- مناقشتنا هذه في الإطار الأوسع في تفسير اللقاء مع الآخر.
إن نقطة الارتكاز في حجة أشلي يمكن الإمساك بها في استشهاده ببيار بورديو Pierre Bourdieu الذي يقول: "إن النظرية المعرفة بعد من أبعاد النظرية السياسية لأن القوة الرمزية التي يتم عبرها –بصورة خاصة- فرض مبادئ محددة لصياغة الواقع هي –في حقيقتها- بعد أساسي للقدرة السياسية".وهذه الفكرة الرابطة بين المعرفة والسلطة وسياسة الواقع وتشكيله هي القاعدة المشتركة لكل الانتقادات التي قال بها أشلي.
فالانتقاد الرئيس الأول الذي يوجهه أشلي إلى الواقعيين الجدد ينصب على النـزعة "الدولتية"، حيث يبيِّن أن الموقف القائل بأن الدولة فاعل اجتماعي والتزام ميتافيزيقي سابق على العلم، وبالتالي لم يتعرض للتمحيص والنقد. فالواقعين الجدد يرون أن النظام القائم هو النظام الطبيعي، ويتحيزون ضمنياً إلى هذا الطرف أو ذاك في خضم صراع المصالح المتعارضة. كما أن انحيازهم الفكري للنفعية يجعلهم يعطون الأولوية للفرد على حساب الجماعة، في حين يفترض انحيازهم للعقلانية أن أساساً واحداً فقط من الأسس المنطقية للعلاقة بين الوسائل والغايات هو الصحيح في جميع الأحوال وبالنسبة لجميع الناس. وهكذا يصير النظام الاجتماعي مسرحاً يجد فيه كل اللاعبين فرصاً متكافئة حيث تستنفد كل التوقعات المتبادلة بين فاعلين يتسمون بالعقلانية والأنانية.
وطبقاً لنظرية غار Gurr في الإرادية والاختيارية، يعتقد الواقعيون الجدد أن التغيير المؤسسي يحدث بصورة تلقائية نتيجة للتغيرات الحاصلة في المطالب والقدرات المتنافسة لمختلف الفاعلين. وبتجاهلهم للقوى السياسية الحقيقية التي تغير المؤسسات أو تنشئها, فإن الواقعيين الجدد يمكنهم أن يروا أن في تواطئهم مع السلطة السياسية أمراً محموداً وأن ينظروا إلى نتائج الخيارات السياسية على أنها أمور طبيعية. وما يلزم عن هذا الجهل المحمود هو أنه يتم إضفاء الشرعية على سلطة الدولة من خلال المشاركة الطوعية لمواطنيها، كما يتم إضفاء الشرعية على نظم العالم السياسية بوصفها نواتج طبيعية للاحتياجات المتغيرة، وذلك كله تحت رعاية مدبِّر خيِّر لنظام العالم. فالتحيز التام لهؤلاء يحول بينهم وبين مناقشة أشكال الاتفاق الاجتماعي التي قد تكون هي نفسها محملةً بالقيم، وطارئة تاريخياً، وقابلة للتغيير.
ولما كان الواقعيون الجدد لا يدركون أن موضوع دراستهم ومنهجها مشبعان بالقيم (أعني المحافظة على التوتر الفعّال وعلى الوضع الراهن للبنى الهيمنية), فإنهم مقتنعون أنهم إنما يدرسون عالماً منفردا وبسيطا يوجد باستقلال عمن يقوم بملاحظته ودراسته. وكأنما هم يقولون بكل بساطة: إنه عالم موجود، ونحن نقوم بدراسته لا أكثر ولا أقل. وبما أن الأهداف العقلانية هي وحدها التي لها معنى في الإطار الذي رسمه الواقعين الجدد، فإن الفاعلين الاجتماعيين محكوم عليهم بالتواصل فيما بينهم وفق قواعد إجرائية. فنحن نصير بذلك أدواتٍ من المفروض أن تُقْهَر ويُتَحَكَّم فيها، إذ أن الشكل الوحيد لاحتجاجنا هو السلبية. فليس هناك أية وسيلة للاحتجاج ليست موصومةً بالإرهاب، وهكذا فإن هذا الصف من النـزعة الوضعية يَحُدُّ بصورة بعيدة المدى من أصوات الاحتجاج الممكنة.
وتتمثل أخطاء الواقعيين الجدد، من الناحية البنيوية، في أربعة أمور أو ما سماه أشلي "الباءات الأربعة" . إنهم –أولاً- ينكرون التاريخ بوصفه عملية متحركة ((Process، وهم –ثانياً- ينكرون أهمية الممارسة ( (Practice وقيمتها. أما ثالثاً فهم يحصرون القوة ((Power في أنها مجرد قدرة؛ وأما رابعاً فهم ينكرون السياسة (Politics) فناً ومهارة. وباختصار، إن الواقعيين الجدد يفترضون أن النظام القائم هو النظام الطبيعي، ويضيقون الخطاب السياسي ويحصرونه، وينفون التنوع عبر الزمان والمكان، ويُخضِعون الممارسة للرغبة في التحكم والسيطرة، ويحسبون أن الأفكار الخاصة بالقوة الاجتماعية تنأى عن المسؤولية.
وقد جاء رد غيلبن غاية في الضعف، فهناك عدد من أوجه النقد الذاتي أبرزها أشلي نفسه، على أن رد غيلبن يتضمن أمرين. أولاً: يعترف غيلبن بأنه لم يطلع على الترجمة الإنجليزية لمقالة أشلي، وقد ورد ذلك في إشارة إلى جملة جمع فيها أشلي على صعيد واحد قضايا الآخرة ((eschatology والتأويــل (hermeneutics) والخطاب ((discourse، وهي جملة ثبت أنها غاية في التعقيد والإبهام بالنسبة لغيلبن.
أما الأمر الثاني فهو التسويغ الذاتي الغاضب للنفس. ويستحق المقطع الأخير من كلام غيلبن أن نورده كاملً هنا، فهو مضطر إلى" القيام ببعض التنازلات"، إذ يكتب بلهجة الواثق من نفسه فيقول:
"إن أشلي على صواب، فأنا أمرؤ "ليبرالي غير عملي". إني أؤمن بالقيم الليبرالية للفردية والحرية وحقوق الإنسان، كما أحب أن تكون بلادي ممثلة لهذه القيم ومناصرة لها. واعتقد كذلك أنه علينا –نحن علماء الاجتماع- أن ندرس الحروب والظلم، وكذا الإمبريالية، وذلك حتى يمكن القضاء على هذه الشرور. وإني لأومن، كقاعدة عامة، أن المعرفة أفضل من الجهل. إلا انني-وعلى وجه القطع- لا أومن بالتقدم الآلي؛ بل على العكس، لا يقين عندي إن كان هناك تقدم في المجال الخلقي وفي الإطار الدولي. وفي الواقع فقد كان هناك بعض النظم الدولية العابرة أكثر إنسانية ورحمة من غيرها، أستطيع أن أذكر منها الهيمنة العالمية للبريطانيين والأمريكان، مهما كان فيها من أمر حرب الأفيون وحرب فيتنام وغبر ذلك من صور الإساءة في استخدام القوة. إن الرؤية التطورية للتقدم الآلي هي المسألة التي تميز في الحقيقة بين أكثر الناس واقعية وأكثرهم مثالية. ففي حين يميل الأولون إلى الاعتقاد بأن التقدم التكنولوجي والاعتماد الاقتصادي المتبادل المتزايد بين الشعوب والبروز المزعوم لمجتمع عالمي كلها أمور تحدث تحولات في طبيعة العلاقات الدولية، إلا أنني أميل إلى الاعتقاد في القوى الأبدية للصراع السياسي التي قال بها مورغنثاو
وما تفرضه من حدود على الكمال الإنساني. ففي نظري على الأقل، إن Morgentha هذه النـزعة الخلقية الشكيّة –مقرونةً بالأمل في أن العقل سيكون يوماً ما أكثر تحكماً في أهوائنا وعواطفنا- تمثل جوهر المذهب الواقعي، وعلى أساسها يتوحد الواقعيون في كل جيل .
إن مفهوم غيلبن لليبرالية يتجاهل تماماً قوة الفكرانية (الأيديولوجيا)، إذ أنه فقط في إطار فكرانية ليبرالية يمكن لخرافة الحرية وحقوق الإنسان (وأنواع المأكولات الشعبية الأمريكية) أن تجد تأييداً لها. فالمحافظون وهم ينشطون في نهاية عصر الحداثة، من المحتمل –أكثر من أي وقت مضى –أن يسلموا بأنهم يعيشون في ذروة عنف رهيب وفي نظام قِوامه العنف المدمر. غير أنهم قادرون على اعتناق المبدأ القائل: "الأفضل أن يكون هم لا نحن " . فالإنسان الليبرالي يلتقي بالآخر ويمارس أصناف لا تصدق من العنف، ولكنه يصر على أن يقوم بذلك كله من أجل الحرية والعدل ونموذج الحياة الأمريكية. وعبارة غيلبن "نعم، حتى الإمبريالية" إن هي إلا عبارة فارغة. فنحن لا يمكننا أن نصدق أن غيلبن غير واعٍ بأن أمريكا قوة إمبريالية، أو أنها مارست (في بعض الأحيان) أعمالاً غير خلقية. إنها لَفِكْرانيةٌ شفافة، نقولها مرة أخرى، تلك التي تسمح لغيلبن أن يؤمن بأن أمريكا قوة خيرة في العالم؛ إن أي اختبار منطقي صارم لهذه الدعوى غير ممكن؛ كما أن أية محاولة لعدّ الناس الذين قتلوا والثقافات التي دُمِّرت أو لتقدير مخاطر الدمار النووي والبيولوجي والكيماوي، كل ذلك مستبعد في إطار الفكرانية الليبرالية.
لنطمئن إلى أن غيلبن يفضل، كقاعدة عامة، العلم على الجهل. ولكن يبدو –علاوة على ذلك- أنه يعتقد أن أشلي يعمل على إيقاع الانفصام بين المثاليين والواقعيين، وهذا أمر مجانب للصواب تماماً. فأشلي لا ينتمي على الإطلاق إلى مذهب جون كنيدي في التقدم التكنولوجي، ذلك المذهب الذي يرى أن التكنولوجيا ستؤذن بميلاد عالم جديد. وليس أشلي كذلك من المدرسة نفسها التي ينتمي إليها ريتشارد فولك Richard Falkوالتي ترى في الاعتماد المتبادل (بين الدول) وفي المجتمع العالمي الآخذ في البروز علامات على نظام خلقي وشيك الحدوث. أما بالنسبة لقول غيلبن إنه يعد "عهود الهيمنة البريطانية والأمريكية" من بين العهود الإمبراطورية الأكثر رحمة وإنسانية، فما الذي كان بإمكاننا أن نتوقعه؟ إن علماء السياسة "الراديكاليين" (الجذريين) يرون أن الشرور "العارضة" لكل من بريطانيا وأمريكا لم تكن قط مجرد هفوات أو أخطاء، بل إنها نتيجة لقواهما واختياراتهما السياسية الأساسية. فحرب فيتنام لم تكن خطأ، إنها حصيلة للقوى الأساسية في صنع السياسة الخارجية الأمريكية. فالقضية ليست: لماذا حدثت الحرب، وإنما السؤال لماذا وقعت هناك، وفي أي مكان آخر ستقع؟
فالمفكر "الراديكالي" نعوم تشومسكي، على سبيل المثال، ينصح الليبراليين بألا يزعجوا أنفسهم بإرشاد السياسيين إلى أن خططهم للسلام في أمريكا الوسطى إنما هي في الحقيقة تزيد الوضع سوءاً. وهو كذلك يشير عليهم بأن يتجنبوا التركيز كثيراً على شرور السياسات الخارجية الراهنة، ويحثهم على أن ينظروا إلى السياسة الخارجية الأمريكية نظرة تاريخية. ذلك أن الميل إلى الاقتصار فقط على المآسي الحالية لتلك السياسة يغري الليبراليين بالاعتقاد بأن مجرد التخلص من تلك الشرور كفيل بأن يعيد أمريكا إلى مكانتها المقدرة لها في حمل مشعل الإنسانية.
وعلى العكس من ذلك، إن النظرة التاريخية إلى السياسة الخارجية الأمريكية تُظهر أن العنف الخيالي والتدمير الواسع النطاق للأمم والمجتمعات والبيئة جزء لا يتجزأ من التكوين الأمريكي، وليس مجرد انحراف عارض. إن ذلك المجمع الراديكالي –أعني الكونجرس- تولى توثيق النشاطات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، في حين ركز مؤرخون آخرون على عمليات الإبادة الجماعية للسكان الأصليين وتوسيع الحدود، وعلى مسألة المصير، على أساس أن ذلك كله يمثل عوامل فعالة في السياسة الخارجية الأمريكية. لقد توصلت –في ضوء ما سبق- إلى أن الفكرانية ينبغي أن تكون موضوع التركيز في أي تحليل للوضع الأمريكي. وإلا لماذا تستطيع صحيفة نيويورك تايمز أن تستهزئ بالانتخابات السوفيتية دون أدنى اعتراف بأنه كان هناك مرشح واحد لسبعة من مقاعد مجلس ولاية لويزيانا الثمانية، وأن ثمانيةً وتسعين بالمائة من أعضاء المجلس الذين خاضوا الانتخابات عام 1988 تمت إعادة انتخابهم؟ إن الولايات المتحدة الأمريكية متورطة في حرب عنف مروعة، ولربما هي حرب أشد عنفاً مما نعلم لأنها خافية عن أعين المواطن الأمريكي إلى حد بعيد. وكما يقول زعيم اشتراكي من البرازيل:
"أستطيع أن أقول لكم إن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بعدُ. إنها حرب خرساء، وليست مع ذلك أقل بشاعة. إن هذه الحرب تمزق أوصال البرازيل وأمريكا اللاتينية، وكل العلم الثالث في واقع الأمر. فالأطفال هم الذين يموتون هناك لا الجنود، وبدلاً من ملايين الجرحى هناك ملايين العاطلين عن العمل، وبدلاً عن تدمير الجسور، يحيق الدمار بالمصانع والمدارس والمستشفيات، بل باقتصاديات تلك البلدان بأكملها... إنها حرب تشنها الولايات المتحدة على أمريكا اللاتينية والعالم الثالث. إنها حرب حول المديونية الخارجية، سلاحها الأساسي المصلحة، وهو سلاح أشد فتكاً من القنبلة النووية وذو قدرة تحطيمية أكبر من أشعة الليزر" .
إن السياسات الغذائية للوكالة الأمريكية الدولية للتنمية تُفرِّخ المجاعات في الواقع، بينما يقوم صندوق النقد الدولي عبر نظمه وترتيباته بتحويل الثروة من الفقراء إلى الأغنياء، ومن الجنوب إلى الشمال. إن هذا ليس مجرد أخطاء، ولن يكون بمقدور غيلبن القضاء عليه بدراساته، مهما كان موضوع تلك الدراسات. إنها جبهة واسعة تتحدى منظورات علم السياسة، وفيها تتداخل مستويات عدة للتحليل، مهما بدا من عدم اتساقها وتراتبها.
وفي إطار "إطلاق النار" العشوائي هذا، فإن الرصاصة الوحيدة التي ينبغي أن تسدد إلى الداخل تتمثل في النقد القائل بأن المنظورات السائدة في علم السياسة في الغرب –وبدون استثناء تقريباً- تتغافل تماماً عن متعلقاتها الفكرانية وهي ذات مناعة من أي نقد جاد وجذري. ولذلك فإن وضع التحولات المنظورية في إطارها الأوسع من التحولات المعرفية هو الذي يسمح بنقد أكثر جذرية وشمولية.
التحولات المعرفية (الابستيمية)
مثلما هو الحال بالنسبة للمراحل الزمنية، ليس من السهل وصف النظم المعرفية بوضوح؛ إلا إن معالجة نظام معرفي ما ليس من شأنها –كمل هو الحال في عملية التحقيب الزمني- إصدار أحكام قيمية معينة. فنحن نستطيع –حينما لا نطلق تقويمات معينة على المراحل الزمنية- أن نتجنب انتقادات جيمسون Jamesonالتي مفادها أن كل تحليل ثقافي ينطوي على نظرية دفينة أو مكبوتة في التحقيب التاريخي. إنه بإمكاننا أن نصف النظم المعرفية بانها عوالم متحيزة من الأفكار يتميز كل واحد منها برؤية كلية خاصة للوجود World view وبمنظور paradigm شامل ومهيمن. ووفقاً لهذا الوصف، يصنف ميشيل فوكو النظم المعرفية إلى قديمة وحديثة، أو إلى قديمة، وحديثة مبكرة، وحديثة متأخرة . وليس تحديد التواريخ مهماً هاهنا، لأن مفهوم النظام المعرفي إنما هو وسيلة نظرية يمكن بوساطتها بلورة أفكار حول الخطاب discourse. أما جان بودريار Jean Boudrillard الذي يقترح أن "نتجاوز فوكو"، فهو يرى أن النظم المعرفية أنساق من تشكل الصور(.(simulacra ويمثل الاقتصاد الإقطاعي المرحلة السابقة لهذه الأنساق. وتتمثل المرحلة الأولى لتشكل الصور في عصر النهضة بمخططه التنظيمي المنطوي على التمثيل والتزييف معاً. أما المرحلة الثانية فيمثلها الاقتصاد الصناعي بما يشتمل عليه من عمليات غير متناهية وقيم غير محددة للإنتاج. هذا وقد دخلنا الآن (وفقاً لبودريار) المرحلة الثالثة لتشكل الصور التمثيلية، ألا وهي مرحلة النموذج الذي يسوق كل إنسان وكل شيء إلى نطاق لعبة الاستجابات وردود الفعل ذات الضبط التحكمي الشامل، حيث الإغواء –جزئياً- محل القمع.
وعلى الرغم من أن هذه التحولات المعرفية قد تمت بلورتها بصورة جيدة ومناسبة للغرب، إلا أنها ذات مركزية أوروبية فاضحة. ونادراً ما يتم إبراز هذا الخلل في تحليلات المفكرين الغربيين للنظام المعرفي المعاصر، وذلك بسبب أن الثقافة الغربية المهيمنة قد بلغت مدى غير مسبوق من العالمية والاختراق لغيرها من الثقافات. إلا أن كلنر kellner كما سنرى، يخطيِّء بودريار بسبب إغفاله حقيقة أن بلدان العالم الثالث التي تجسد النظام الثالث للصور التمثيلية ما زالت تعمل في النظام الثاني وفقاً لقانون الإنتاج والقمع.
ويأتي تمييز جيرمي رفكين Jeremy Rifkin بين عصر التقنيات النارية (Pyrotechnics) عصر الهندسة الحيوية bioengineering أقل تعقيداً، ولكن ليس أقل عمقاً وبعد نظر. ومن منطلق كونه مفكراً شعبياً ذا انخراط مشهود في معارك قضائية ونشاط حركي دؤوب في معارضة الهندسة الحيوية، يلح رفكين على أن المسائل الخلقية يجب أن تطرح الآن في بداية المسار، وليس في نهايته، بعد أن يفوت الأوان. ولنبدأ الآن باستعراض التحولات المعرفية التي قال بها هذا المفكر.
يرى ريفكين أن الإنسانية ظلت تعيش في ظل التقنيات النارية آلافاً من السنين. ولقد ظللنا –نحن الآدميين- على الدوام نحرق الماضي (متمثلاً في الوقود الحفري والفحم...) وذلك بغرض أن نضمن بعض التحكم والسيطرة على البيئة. ومن خلال أكل اللحوم واستخدام التقنيات النارية اكتسبنا الكثير من الماضي (ممثلاً في كل الغذاء الذي تمثله الحيوانات وكل الطاقة التي سمحت للأشجار بالنمو) من أجل نمونا وتطورنا، كما قمنا –من خلال العيش في إطار جماعة –بالتنازل عن بعض حريتنا الفردية مقابل أمننا المادي. وقد اعتمد ريفكين على عدد من الأعمال الفكرية المهمة حول علاقة الكائنات الحية ببيئتها لدعم أفكاره وتحليلاته السابقة (التي يمثل بعضها أموراً مألوفة عند شاه ولي الله الدهلوي وابن خلدون على سبيل المثال). وإلى جانب هذا التحليل يذهب ريفكين إلى أننا نظن طالما تمسكنا بمنظور بعينه أو أداة وصفية بعينها معلقين عليها دعاوى مفرطة، حيث نروج للفكرة القائلة بأن رؤيتنا الخاصة للأمور هي الطريقة التي يسير العالَمُ وفقاً لها في واقع الأمر، وذلك لكي نخرس الدعاوى المنافسة لنا. وهكذا فالفكرة في واقع الأمر ليست من إنتاج شخص ما، بقدر ما هي نتاج اجتماعي، وإنما يتم تقييدها في شكل كتاب أو صيغة معينة، وهذه هي الحال مع دارون.
فكتاب دارون "أصل الأنواع"، كما يبين ريفكين، يفتقد إلى الحجة الكلية العلمية حول مسألة التطور، بقطع النظر عن أهدافه وغاياته. وغاية الأمر أن هناك رؤية كلية للوجود تكاملت وتبلورت من خلال كتاب "أصل الأنواع"، الذي لا تكاد فكرة التطور تذكر فيه إلا وهي مالكة على داروين نفسه. إن هذا لهو النقيض لما يرى كون وآخرون وغيره: من أن عالماً مفرداً يتبين فجأة شذوذاً ما وسرعان ما يصطف بقية العلماء تأييداً له. إن الاجتماعي the socialيأتي أولاً، ثم يتولى الخطابُ إنشاء التجارب والأعمال لا وفقاً لمنطق العالِمِ، وإنما وفقاً لمنطق المجتمع. وعلى هذا ليس هناك من غرابة في أن علوماً إسلامية An islamic science سيكون لها من المفاهيم والتجارب ما هو مختلف عن العلوم السائدة وفي حالة نـزاع معها، بقدر ما أن الثقافة [الغربية] المهيمنة والسائدة الآن معادية للإسلام.
وهكذا فقد كان لا بد من وجود مجتمع مقتنع بقيم التصنيع حتى يمكن للثورة الصناعية أن تنطلق. وبعيداً عن أي تفسير تآمري، فإن الذي حصل هو بروز مجموعة من الأفكار التي كانت مقبولة لدى أعداد كبيرة من الناس، والتي اتفق أنها كانت مناسبة لمقتضيات التصنيع. فمفاهيم الكـفاءة والوقت والاجتهاد في العمل Industriousness كلها كان من شانها تعزيز عملية التصنيع.
وفي رأي ريفكين،لم تنطلق الثورة الصناعية إلا لأن ملاك الأرض من النبلاء كان بإمكانهم هم كذلك الاستفادة من التصنيع. ولما كان الفقر المستشري في المدن وسوء الأحوال الناجم عن التصنيع في حاجة إلى تفسير، فإن مقولة داروين ببقاء الأصلح نُظِر إليها لا كما هي في الواقع بوصفها مذهباً يشرّع للجشع والقسوة، بل على أنها صورة دينية لتصفية اللباب من القشور، ولحتمية التقدم، ولضرورة التخلص من الأشخاص غير الفعالين والبيئات غير النافعة.
لقد قدم ريفكين شهادات مكثفة تبين كيف أن نظرية التطور أصبحت الآن موضع شك ومراجعة جادّين، ذلك أنه تعوزها –وبكل بساطة- البينات الحفرية fossil evidence. فالعلماء أصبحوا الآن يديرون ظهورهم لعقود من التسليم المطلق بفكرة التطور ليخضعوها للمساءلة الشاملة. بل يذهب ريفكين إلى أكثر من ذلك حيث يبين أن نظرية التطور ستموت بانقراض الجيل الحاضر من العلماء، لأن الجيل القادم منهم إن هم إلا أطفال اليوم الذين يقضون أكثر أوقاتهم أمام شاشات التلفزيون والكمبيوتر، والذين يلعبون بالمحاولات Transformersويعرفون ما هي عوامل التحول الوراثية. إن عالمهم يختلف بصورة أساسية عن عالمنا، فعصرهم سيكون عصر المورِّثات الحيوية Biogenetic age. وفي هذا الصدد يقول ريفكين: "إن أطفالنا بدأوا يتصورون العالم بطريقة تختلف جذرياً عن أي شيء يمكننا التماهي معه بصورة مباشرة"، لأن أطفالنا "سيكونون هم المقيمون الأوائل لثاني حقبة اقتصادية كبرى" . فعندما كنا نستخدم المطرقة كان العالم كله يبدو لنا كما لو كان مسماراً؛ أما أولئك الذين يستخدمون الحاسوب (الكمبيوتر)، فإن العالم بأجمعه يبدو لهم كما لو كان برنامجاً ينبغي إعادة برمجته.
إن الحاسوب لم يدخل حياتنا دون إحداث تغييرات جذرية في أساليب تفكيرنا. فالمعرفة والإنسانية قد تقلصتا في نهاية المطاف إلى مجرد معلومات وأرقام.
والقرآن –مسجلاً على قرص- ليس غير سلسلة من الأرقام الثنائية bytes المجمعة بصورة تجعل من اليسير معالجتها بطرق مختلفة، إنه ليس شيئاً أكثر من القطع المتناهية في الصغر، موضوعةً في دائرة من اللدائن متناهية في الصغر هي الأخرى. والإنسان ليس شيئاً أكثر من المعلومات الخاصة بتكوينه، بحيث إنه – أن تقوم مثلاً ببث قِطٍّ عبر وسيط إلكتروني بإمكانك –كما يقول كارل ساغان Carl Sagan-إلى جميع أرجاء العالم إذا توفرت لديك المعلومات الخاصة بتكوينه. فنحن، في الأساس، لسنا شيئاً سوى معلومات، والمعرفة في جوهرها معلومات موضوع بعضها مع بعض "بصورة انتقائية". فما الذي حدث إذاً للجوهر في عصرنا هذا؟
إن الجيل القادم من العلماء لن يقبلوا قط بداروين ونظريته الساكنة الجامدة إلى الأنواع. ولن يكون عليهم أن يجلسوا ليرقبوا الأنواع وهي تتطور، بل سيقومون هم أنفسهم بتطوير الأنواع. إن التلفزيون والحاسوب والعديد من الكتب قد أقنعت بعدُ هذا الجيل بأن الأشياء قابلة لتشكيل والتبديل والتحويل إلى ما لا نهاية له. وعليه فليس هناك شيء هو شخص إنساني؛ إنه مجرد شفرة وراثية genetic وقد جرى تشكيلها بصورة معينة ، إلا أنه يمكن للمرء تحويلها حسبما يروق له Ad libitum". ويزعم دعاة الهندسة الوراثية البشرية أنه سيكون تصرفاً غير مسؤول إذا لم تستخدم هذه التقنية الجديدة الهائلة للقضاء على الاضطرابات الوراثية genetic disorders الخطيرة."
وبطبيعة الحال، فإن هؤلاء الدعاة هم الأشخاص الذين وجدوا أسباباً وراثية لكل شيء غير مرغوب فيه، من الجنون إلى الجريمة إلى المرض. وما علينا هنا إلا أن نتذكر ميشيل فوكو حتى نصاب بالذعر والخوف عندما نرى كيف أن العلوم الإنسانية –متحالفة ومتحدة مع علوم الأحياء حول ما يندرج في النطاق المشروع للتحكم والاختبار- أصبحت أكثر انتشاراً يوماً بعد يوم، إنه حقاً "بحث لا غاية له ولا نهاية"؛ وهذا كله يحدث بهدوء. إن النجاح في زرع الهندسة الحيوية في "الحياة النفسية للحضارة يعود إلى أن ذلك قد تم ّ بصورة غير مُدْرَكة إلى حد كبير في قناعة الجديد. والعلم الجديد لتحسين الجنس البشري eugenics إنما هو علم تجاري، وليس علماً اجتماعياً. فبدلاً من الصيحة التي يطلقها علم تحسين الجنس البشري ابتهاجاً بالنقاء العنصري، يتحدث العلم التجاري الجديد لتحسين الجنس بلغة ذرائعية عن الفعالية الاقتصادية المتزايدة والمستويات الأفضل للأداء، والتحسين في نوعية الحياة."
إننا في عصر يسيطر عليه الحاسوب بوصفه استعارة ونظرة في الزمن، عصر فيه "يتعادل تطور المعلومات مع تطور الحياة، حيث إنه مع علم الكونيات المُشاد حديثاً يستطيع بروميثيوس Prometheusأن يتخلص من معاناته الطويلة، ويستطيع آدم وحواء أن يعودا إلى الجنة " . ولربما كانت أمامنا فرصة للاختيار، بحيث يكون بإمكاننا أن نختار تدبير حياة كوكبنا، "بأن نخلق طبيعة ثانية على صورتنا، أو يمكننا أن نختار الاشتراك مع بقية المخلوقات في عالم الأحياء... إنه لم يحدث ولو مرة واحدة في التاريخ الطويل للحضارة الغربية أن قلنا لا ضمان مستقبلنا الخاص. لقد قمنا بتنظيم أنفسنا والعالم، وأعدنا التنظيم مرات ومرات... وفي كل مرة كنا نبحث عن شيء ذي شأن عظيم، شيء كنا نأمل أن لا نحرم منه، ألا وهو الخلود. إننا ما ضحينا بالعالم من أجل أن نشتري البقاء لأنفسنا إلا لنكشف أن حضورنا الدائم إنما يكون الحصول عليه فيما ظل على حاله، وليس فيما استهلكناه. هذا هو الدرس المستفاد –إذا كان هناك من درس- من رحلة الخداع الذاتي الطويلة التي قطع أشواطها رجال الغرب ونساؤه عبر مئات السنين."
لقد أثار بودريار بعض هذه القضايا بصورة أكثر دقة؛ إلا أنه في الوقت الذي يتطلع فيه ريفكين إلى التغيير، يعتقد بودريار أن عصر ما بعد الحداثة قد أصبح أمراً واقعاً. ومثلما ذكرنا سابقاً، فإن ترتيبه لأنساق تشكل الصور التمثيلية يبدأ بالاقتصاد الإقطاعي الذي يمثل المرحلة السابقة لهذه الأنساق، والذي يتميز بالانعدام التام للحركة وبالوضوح الكامل: إن المواقع ثابتة وهرمية بصورة حادة، أيما شيء كان فهو كائن.
ثم جاء عصر النهضة وصعود البرجوازية، الذي انهار بمجيئه نظام الطوائف المغلقة Caste system. إن عصر النهضة هذا يسود فيه التمثيل والتزييف، ويتميز باستراتيجية الحكومة المركزية المرسومة لضمان الشرعية السياسية والثقافية. فالمسرح وزخارفه هي استعارات هذا العصر لتمثيل الحقيقة والتعبير عنها. إن عصر النهضة -بقطيعته مع نظام التراتبي الإقطاعي للعصور الوسطى الجامد في رموزه ومواقعه الاجتماعية– قد أدخل في حياة المجتمع عالم الرموز الاصطناعي والمشاع الذي أضفى قيمة كل شيء مصطنع (الزخرف والمسرح و"الموضة" وفن "الباروكة"، والديمقراطية السياسية)، وهكذا تفجرت الهرميات والنظام مع النسق الطبيعي للقيم .
وبقيام الثورة الصناعية، ظهر نظام معرفي جديد (المرحلة الثانية لتشكل الصور التمثيلية) تميز ببـروز الإنسان الذي استولى من الطبيعة على موقع المرجع ((referent. إن لدينا اليوم العلوم الإنسانية وموضوعية العلم، والتقنية والإنتاج التي أصبحت كلها تمثل القيمة والمرجع. فالسينما والتصوير هي استعارات نظام الصور الزائفة، وفي هذه السلسلة اللامتناهية يكمن القانون الصناعي للقيم.
أما في المرحلة الثالثة من تشكل أنساق الصور الزائفة، أي مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد العصر الصناعي، فقد دخلنا عالم النماذج الموجِّهة لآليات اشتغال المجتمع، وعالم الحسابات الرقمية وحمض نُوى الخلايا DNAوالشفرة الوراثية. وتحولت القيم التبادلية التي كانت سائدة من قبل إلى مجرد جذمار(Rhizome) مبرمج يتحكم في الحياة، فالجذمار جذر مكوِّن لمرحلة ما بعد الحداثة. لقد تعودنا الحديث عن الجذر بوصفه عاملاً موضوعياً، واضحاً، ومؤثراً ذا نتائج ومسببات. أما الجذمار فهو ينتشر طولاً –وعلى وجه الدقة- تحت سطح الأرض. واتساقاً مع أسلوب "ما بعد الحداثة"، لا يقبل الجذمار بأية بداية أو نهاية، كما لا يقبل بأية صيغة عمودية تصل ما بين المعنى السطحي والمعنى العميق. إننا في عالم اليوم أمام قانون بنيوي للقيم يعمل في سياق الرأسمال الجديد المتقن الإحكام والهادف إلى السيطرة الشاملة. وتتلاحم النماذج المستقاة من كتب الجنس وكتب فن الطبخ ونماذج عمارة المدن ووسائل الإعلام كلها لتخضع حياتنا لضبط محكم. وحينما نقتفي جميعاً النموذج بصورة كاملة وفي كل موقع من مواقع حضورنا (من الزنـزانة إلى المنـزل)، فإن التحكم في حياتنا المبرمج بالحاسوب يصبح كاملاً. وفي عالم ليس فيه إلا ثنائيات تقابلية: نعم أو لا، س أو ص، أمريكا أو الاتحاد السوفييتي، ليس هناك من إجابة بديلة عن هذه الثنائيات.
إن التلفزيون مجاز عصر ما بعد الحداثة وصورته. فعندما يأخذ المخرج "التلفزيوني" صوراً مأخوذة من آلات التصوير تمّ التقاطها من مشاهد غالباً ما يكون قد جرى تمثيلها وإعادة تمثيلها خصيصاً للتلفزيون، عندما يفعل هذا المخرج فإنه يقوم بتعديل الصورة ونمذجتها، ويزيد من قوة الألوان وكثافتها في طرف أو آخر من أطراف الطيف، ويقوي هذه الإشارة، ويعدل في هذه أو تلك؛ وكل ذلك يجعل ما هو "حقيقي" أكثر بعداً بحيث يصبح ما يوجد في الواقع ليس حقيقياً، وإنما هو مجرد صورة؛ إنها صورة مفرطة في بعدها عن الحقيقة، صورة يتم فيها تطاير ما هو حقيقي ودفعه إلى الجزء الأعلى من الغـلاف الجوي Stratosphere في انفجار لصور المرايا المتقابلة في سلسلة لا نهائية. وهكذا يصبح ما هو "حقيقي" دون الصورة في حقيقته، ويصبح النموذج في حقيقته دون الشيء الذي يمثله، ويحدث بالتالي الانفجار الدّاخلي للمعاني.
إن المتفرج في متحف بوبور Beaubourg Museum بفرنسا يُتْلِع عُنُقَه لينظر إلى النماذج البلاستيكية وهي في حالة تسافد. إنه يحملق عن قصد في تلك النماذج، وفي حقيقتها الظاهرية وهي تكاد تكون حية ناطقة، ويحملق في وضوحها وجلائها التامين. إن تلك الأزواج المتسافدة فوق الحقيقة، وهي مفرطة في تجسيدها للحقيقة، بل أكثر حقيقة مما هو حقيقي، وهي بارزة للعين بصورة غاية في الوضوح لأنها تتم أمامك مباشرة. إن هذا هو ما يدعوه بودريار خلاعة ودعارة. وليس هناك من عاطفة أو شاعرية أو شهوة، لأن مثل هذه المشاعر تحتاج إلى شيء من العمق. فالممارسة الجنسية تتطلب خيالاً وتمثيلاً، ولكن الجنس في مرحلة ما بعد الحداثة أصبح يتم توجيهه وفقاً لنموذج محدد (كتاب التربية الجنسية) بحيث أصبح أمراً فوق الحقيقة. إن في الجسد، في عالم النموذج التلفزيوني للجنس في مرحلة ما بعد الحداثة، باردٌ تماماً وسطحي وداعر، وخالٍ من أي معنى؛ إنه ببساطة مجرد رمز للتبادل. فسيارة "الفراري" والفتاة والسيجارة كلها رموز وإشارات لا عمق لها ولا فائدة من ورائها. لقد كان سائق السيارة في الخمسينيات يحب سيارته الرياضية المكشوفة بوصفها امتداداً لطاقته الجنسية؛ أما بالنسبة للسائق في عصر ما بعد الحداثة، فالسيارة حاسوب ذو أفق تلفزيوني دائم التحول يمر عبر شاشته. ولكونه قد طلَّق الطريق ومخاطره وإثارات السرعة واهتزازاتها، فإن السائق في عصر ما بعد الحداثة يقتني السيارة لا لركوبها، ولكن، لقيمتها الرمزية، وفي وضع كهذا، فأنت تمتلك سيارة من طراز BMW ولكنك لا تركبها.
لقد أورد غاي إيتون Gai Eaton أن الأفكار العقلانية للإغريق (التي تم نقلها عبر الفكر الإسلامي) قد هزت الفكر الكنسي من القواعد، ولم تستطع الكنيسة لا استيعاب الفكر الجديد وتشرَّبَه أو رده ودحضه. ونتيجة لذلك، تفجرت كل القوى المكبوتة والكامنة في العالم المسيحي، ودفع هذا الانفجار بالغرب في اتجاه ومجرى جديدين. ولقد كان غزو الطبيعة والانقلاب على الإله نتيجة لانحراف أساسي، حيث أن التخلي عما هو جوهري ونبذه قد أديا بالإنسان الغربي –كما يقول إيتون- إلى التركيز على ما هو تافه، وذلك لكي يعرف الناس كيف يسيرون القطارات بانتظام، كما كان يحلو لموسيلني أن يدعي . هذا ويمكن النظر إلى الحداثة –مع الاحترام لبودريار- على أنها إنفجار موجه ومضبوط (من الاستعمار إلى الإمبريالية إلى استكشاف الفضاء) حفز عليه الانطلاقُ المفرط لقوى الإنسان وطاقاته.
وإذا كان وضع ما بعد الحداثة يعني افتقاراً إلى العمق وتمجيداً للسطح واحتفالاً به، فإن الحداثة– منظور إليها من أفق وقوعها- هي "علم تفسير الشك وتأويله" (هرمونيطيقا الشك of suspicion Hermeneutics) الذي ينظر فيه إلى السياسة والثقافة والحياة الاجتماعية بوصفها ظواهر ثانوية مصاحبة للاقتصاد أو الشهوة أو اللاشعور. إن "نماذج قياس العمق" depth models قد استخدمت لكشف الحقيقة وإزاحة الغموض عنها، ولبيان الحقيقة التي تشكل قاعدة ما هو باد وظاهر، ولإبراز العوامل المكونة للواقع. وبهذا فقد كانت الحداثة تعني تدمير المظاهر ممثلة في الصور التمثيلية لعصر النهضة- The representation of renaissan؛ أما ما بعد الحداثة فهو تدمير للمعنى. بل إن بودريار يعد نفسه منظرا إرهابيا وظيفته تدمير المعنى وإبادة ما هو حقيقي ومحْقُ ما هو تمثيل. فالمعنى لا بد من تحطيمه، لأن المعنى يقتضي العمق، أي يتطلب بعداً خفياً أو قاعدة تحتية لا تُرى. وعلى العكس، فإن كل شيء في إطار ما بعد الحداثة ظاهر للعيان وواضح وشفاف، بل وداعر. وكيفما كان، فإن تقنيات التاريخ السطحي –كما لاحظ إدوارد سعيد- إن هي إلا تهرب من المسؤولية، إذ إنها تسمح لفكر ما بعد الحداثة بأن ينجرف مع التيار فاقدا للذاكرة وبصورة تاريخية.
إن ما بعد الحداثة بوصفه انفجاراً داخليا لكل الحدود والفنون (بين كل المتضادات الثنائية opposes Binary يعني نهاية كل ما هو حقيقي وقطعي، كما يعني نهاية المراجع الكبرى ونهاية كل ما هو اجتماعي. وهكذا فالحقيقي the real والمعنى meaningوالتاريخ history والقوة power والثورة revolution والاجتماعي the social كلها أشياء ينبغي استبعادها.
إن مرحلة ما بعد الحداثة إعلان عن نهاية الإنسان، هذا المرجع الكبير. فقد ظهر الإنسان –كما يرى فوكو- مع مفهوم العلوم الإنسانية، وذلك من خلال خِطاب تم إنشاؤه في العهد الكلاسيكي للتمثيل representation. وعندما تندثر اللغة، فلا بد للإنسان أن يندثر معها. إن هذا لأمر مضاد للنـزعة الإنسانية، فهو يعني نهاية التحديدات الاصطناعية للإنسان بوصفه هذا الشيء أو ذاك، بوصفه كائناً اقتصاديا أو سياسيا أو إنساناً صانعاً Homh Faber، أو بوصفه إنساناً مصوراً Homo pictor أما بالنسبة للمسلم، فإن نهاية الإنسان تعني أن البشر ربما يكتشفون الله مرة أخرى، وبالتالي يعودون إلى الإسلام. ومن المؤكد أن تدمير الإنسان على يدي كل من فيورباخ feuerbach وماركس Marx كان مقدمة ضرورية للتعرف على الإسلام وتقديره .
فعندما يتحدث فوكو Foucaultإلى وجه الإنسان المحفور في الرمال الذي يختفي عندما يغرقه مد الموج، يتذكر المسلم أنه عندما يهلك كل شيء يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
وبالنسبة لبودريار Boudrllardفإن التحليل الجذرماري rhizomatic والانفصامي يظل ينتمي إلى المرحلة الأخيرة من الإمبريالية إلى الفكرانية التحررية الكبرى، لأن هذه الأدوات التحليلية ما زالت تفترض أن هناك شيئاً ما ينبغي أن ننقذ أنفسنا منه، وأن هناك حقيقة ما يمكن الرجوع إليها. ولكن التخلي عن التتّرس بالتمثيل representation يعني القبول بمبدأ حلولي، حيث أن الكلمة يمكن أن لا تعني أبداً العالم، بل إن الكلمة ينبغي أن تكون هي العالم. ويرفض أولوية الإدراك، فإن ما بعد الحداثة يفترض علاقة تبادلية بين الكلمة والعالم والعقل. وكما لاحظ ستيفن تايلر Stephen Tyler فإن الكلام واسطة الرؤية دائماً .
وفي إطار فكرة الحلول هذه يقوم العقل بتعميم نفسه في العالم. ويصّر إيهاب حسن في هذا الصدد على أنه ينبغي ألا يُسمح لأية نغمة دينية إضافية أن تلطخ لفظة "حلول" immanence. ولكن الحقيقة هي أن نظرية الحلول هذه دينية تماماً. إن مخاطر هذه الآراء -وخاصة تلك التي عبر عنها تيلار دي شاردان Theillard de chardin- قد تصد لها تيتوس بوركهارت Burckharet Titus فقال: "يمكن مقارنة فكر ديلار دي شاردان –بوصفه عرضاً من أعراض عصرنا- بواحدة من تلك الفرقعات التي تحصل نتيجة التصلب الشديد في الجمجمة (الواقية للدماغ) التي لا تنفتح إلى الأعلى، على سماء الوحدة الحقيقية المتعالية، بل تنفتح إلى الأسفل، على عالم نفسي وضيع. وبفعل الإرهاق الذي أصابه من جراء رؤيته المتقطعة للعالم، فقد ترك العقل المادي نفسه ينـزلق نحو نشوة روحية زائفة، يمثل فيها هذا الإيمان المادي المزيف –أو المادية المتسامية- الذي وصفناه قبل قليل مرحلة ذات مغزى خاص" .
"إن وضعية ما بعد الحداثة تعود" –في رأي روي بوين Roy Boyne- "إلى البحث البائس عن المعنى الذي سيضفي المشروعية على جهد الإنسان ونضاله من أجل التقدم الذي لا يزال هو المحدد لعملية التنشئة الاجتماعية في الغرب من البداية إلى النهاية، مقروناً بالعلم أو الشعور بأن النتائج التي تمّ التوصل إليها كلها زائفة، وأن الثمرات التي جنيت كلها مزيّفة ويمكن التخلص منها . وكما لاحظت منى أبو الفضل، "هناك شيء ما مثير للشفقة في ورطة الإنسان الغربي ومحنته، إذ يبدو أنه مصمم على تكبيل نفسه بأصفاد تحبسه في قفصه الذهبي" . إننا نعلم ما صنعته هذه الحداثة بالإنسانية. أما بالنسبة لآثارها في العلوم الاجتماعية، فإننا نتفق مع المفكرين النقد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعـد الحداثة من منظور إسلامي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» علم السياسة و أزمة مابعد الحداثة نحو بديل حضاري
» عوامل تفعيل المبادرات الدولية أمام تحديات النزاعات المتسارعة من منظور إسلامي
» علم السياسة وأزمة ما بعد الحداثة
» علم السياسة وأزمة ما بعد الحداثة
»  الفكر السياسي في مرحلة ما بعد الدولة المدينة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى قالمة للعلوم السياسية :: ******** لسا نـــــــــــــــــــــــس ******** :: السنة الأولى علوم سياسية ( محاضرات ، بحوث ، مساهمات )-
انتقل الى:  
1