يرى شتراوس أنه لا يجوز للسياسة أن تحرّم استصدار أحكام بالقيم الخيّرة، وأن من واجب الأنظمة الخيرة أن تدافع عن نفسها في مواجهة الأنظمة الفاسدة. وهذه الرؤية ستحكم عقلية اليمين الجديد التي ترى في نظامها السياسي ذروة الخير وأنظمة الآخرين ذروة الشر، رغم أن شتراوس نفسه لم يكن يعتبر النظام السياسي في الولايات المتحدة كأكثر من(أقل الأنظمة سوءاً)، إلا أن تلامذته من أمثال ألان بلوم وبول وبول ولفيتز ووليام كريستول قد(فرّخوا) من يعتبر بأن نظام الولايات المتحدة الأمريكية هو مثال الخير الذي يجب أن يستعمل كل وسائل القوة لفعل ذلك الخير إلى الآخرين!؛ ومن أمثال هؤلاء ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وابراهامز… الذين استطاعوا أن يستثمروا لحظة"الغباء في التاريخ"؛ أعني الخطأ القاتل الذي ارتكبته منظمة القاعدة، كي يستولوا على القرار السياسي للحرب وعلى جزء مهم من القرار والممارسة الديبلوماسية بتغييبها لصالح استعمال"القوة".
وهؤلاء الذين يشرعنون استعمال القوة ينهلون أيضاً من تلامذة شتراوس من أمثال والتر بيرنز وهارفي مانسفيلد وهاري جافا الذين اعتبروا أن مؤسسات الولايات المتحدة الديمقراطية هي المرجعية التي يجب اعتمادها في العالم كمثال… للخير!.
ومن هنا يسير ريتشارد بيرل وصحبه على قاعدة أن طبيعة الأنظمة هي الأهم في التعاملات الدولية؛ فإذا لم تكن ديمقراطية فإن ليس لأحد من الأنظمة الديمقراطية أن تتعامل معها، بل يجب أن تقوضّها وتحرص على ألا تقوم المنظمات الدولية تحت عنوان وذريعة"حفظ السلام الدولي" بتهيئة الظروف لاستمرارها، وهنا بالذات إذا ما فعلت تلك المنظمات ذلك، فإن الضغط يجب أن يكون عليها أيضاً ولا مانع من إضعافها… وتخطيّها.
كـانت الكـذبة الـدنيئة حسبما يقول جيفري شتاينبرغ – أو الإعـلام الكـاذب – عند ليوشتراوس وتلامـذته – المفتـاح للـوصول إلـى السلطـة السيـاسية والمـحافظة عليـها، والسـلطة السيـاسية الفجة بالنسبـة إليـهم هـي الهـدف النهـائي عند شتراوس وأتبـاعه حيث لا تـوجد مبادئ عـامة ولا يـوجد قـانون طبيـعي ولا فضيـلة ولا يـوجد " حب إلهي" ولا فكـرة للإنسـان فـي صورة الله .
ويليـام كـريستول (William Kristol)، الذي يعتبر مـن أتبـاع شتراوس الرائدين فـي واشنـطن ،ورئيـس الدعـاية العـامة لحـزب الحـرب فـي إدارة جورج دبليو بوش، تحـدث عـن هـذه الفكـرة بفظـاظة خـلال مقـابلة أجـرتها معـه نينـا إيسـتون (Nina Easton) الـتي ألفـت كتـاب " عصـابة الخمسـة" (Gang of Five) مـن منشـورات ( New York : Simon& Schuster2000) الـذي ضمنـته وصفـاً مطـولاً لكبـار القـادة فـي حركـة التـمرد اليمينـية التـي حصلـت فـي عقـد التسعيـنيات. فقـد قـال كريستول فـي هـذه المقـابلة:
إن واحـداً مـن التـعاليم الـرئيسة [ لشتراوس] أن السيـاسة بمجمـلها محـدودة وليـس فيـها شيء يستـند إلـى الحقيقـة لذلـك تـوجد نـزعة فلسفـية معيـنة يستطيع المـرء مـن خـلالها أن يحتـفظ لنفسـه أو قضاياه بمسـافة معيـنة عـن هـذه المعـارك السـياسية .... والمـرء لا يحمل نفسـه أو قضاياه علـى محمـل الجـد إذا كـان يعتقـد أن هـذا الأمـر هـو حقيقـة كـاملة مـائة بـالمائة. والحـركات السيـاسية دومـاً مليئـة بـأشخاص يقـاتلون مـن أجـل آرائـهم. لـكن هـذا الأمـر مختـلف عـن "الحقيـقة".
ومـن موقعـه كرئيـس تحـرير لمجـلة "ويكلي ستاندرد" (Weekly Standard) التـي يمـولها روبرت مردوك (Rupert Murdoch) التـي صدرت لأول مرة عـام 1995، عمـل كريـستول علـى إتقـان فـن الخـداع السـياسي و"الكذبـة الكبـرى" التـي تحـدث عنهـا غوبلـز (وزير الإعلام النازي) ، حسب شتياينيرغ. فكريـستول هـذا هـو ابـن اثنـين مـن أبنـاء الجيـل الأول لأبوين مـن المحـافظين الجـدد في فترة ما بعـد الحـرب همـا ايرفنغ كريسـتول (Irving Kristol) وغيرترود هيملفارب (Gertrude Himmelfarb) . وتلـقى علومه منـذ عيـد ميـلاده الثـامن عشـر فـي هـارفارد علـى يـد واحـد مـن أهـم أتـباع شتراوس هـو هارفي مانسفيلد الابـن (Harvey Mansfield, Jr.). و مـن زمـلاء كريستول فـي جـامعة هارفارد وصديـقه الـذي شـاركه غـرفة واحـدة وهو أيضـاً مـن أتـباع شتراوس، ألان كيس (Alan Keyes) الـذي تولى منصـباً فـي وزارة الخـارجية فـي عهـد ريغان، والـذي رشـح نفسـه لمجلـس الشـيوخ ولم ينـجح عـن ولايـة مـاريلاند (و كريستول هـو الـذي قـاد حملـه كيس عـام 1988 ضـد المـرشح الـديمقراطي بول ساربانز)، ومـن زمـلائه الجـامعيين أيـضاً فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) الـذي أخـذ يـروج فيـما بعـد لفـكرة نيتشة الـتي تحـدثت عـن "نهـاية التـاريخ". فقـد جـاء فوكوياما إلـى جـامعة هارفارد بعـد أن أتـم مـرحلة دراستـه الجـامعية الأولـى فـي جـامعة كورنيل، وفـي هارفارد تلقـى علومه علـى يدي ألان بلوم (ِAllan Bloom) وهو مـن أعضاء الـدائرة المصغرة لأتـباع شتراوس فـي جامعـة شيكاغو- وقـد ألـف زميلـه مـن جامعـة شيكاغو شاؤول بيللو (Saul Bellow) روايـة مطابقة للواقـع تحـدث فيـها عـن حيـاة بلوم.
و مـن أتـباع شتراوس الآخـرين الـذين يعـدون حـالياً جـزءاً مـن حـركة التـمرد للمحـافظين الجـدد المسـتمرة: جون بودهوريتز (John Podhoretz)، محـرر صفحـة الـرأي فـي الصحـيفة الصفراء "نيويورك بوست" (New York Post) الـتي يملكهـا مردوك والمـحرر السـابق لمجـلة "ذا ويكلي ستاندرد" وهـو أيـضاً سليـل الجيـل الأول مـن المحـافظين الجـدد نورمان بودهوريتز (Norman Podhoretz) وميدج دكتر (Midge Decter)، ومنـهم أيـضاً قـاضي المحـكمة العلـيا كلارنس توماس (Clarence Thomas)، ووزير العدل جون أشكروفت (John Ashcroft) وإ.لويس (سكوتر) ليبي (I. Lewis "Scooter" Libby) رئيـس الأركـان وكبـير مستـشاري الأمـن القـومي لـدى نائـب الرئيـس تشيني الـذي دخـل إلـى عـالم ليو شتراوس عـن طريـق أستـاذه فـي جـامعة ييل بول وولفويتز. ومنـهم أيـضاً مسؤول الإعـلام الكـاذب في البنتاغون أبرام شولسكي (Abram Shulsky)، وكـذلك غاري شميت (Gary Schmitt) المـدير التنفيذي لـ "مشـروع القرن الأمـريكي الجديد" بقيادة كريستول، ودافيد بروك (David Brook) وهـو محـرر أيـضاً فـي مجلـة ويكلي ستاندرد، وفيرنر دانهاوسر (Werner Dannhauser)، أحـد تلامـذة شتراوس وكـان ممـن تـرك العمـل فـي الجـامعة ليضطلع بمسـؤولية رئاسـة تـحرير إحـدى المجـلات التـابعة للمحـافظين الجـدد تدعى "كومينتاري" (Commentary) بعد أن أحيـل نورمان بودهويتز إلـى التقاعد, وكـذلك روبرت كاغان (Robert Kagan) الـذي يعمل أيـضاً فـي مجـلة "ذا ويكلي ستاندرد" وهـو ابن دونالد كاغان (Donald Kagan) الأستاذ الجـامعي فـي جـامعة ييل ومـن أتـباع شتراوس.
هـذه العصبة مـن تلامذة شتراوس إلـى جـانب مجموعة صغيرة أيضاَ مـن المحافظين الجدد المتحالفين وزملاء لهـم مـن الليكوديين قـد عملت بما يشبه الشبـكة السريـة داخـل الحكومة الأمريكية وحولها خلال السنوات الثلاثين الماضية – في انتظار لحظة تحين فيها فرصة للانقـلاب الـذي لـم يكـن علـى مثل هـذه السريـة. وكـان تاريـخ 11 أيلول 2001 الفرصة التـي لا تأتـي إلاّ مـرة واحـدة [2].
تيار ما بعد شتراوس :
" الطاغية والفيلسوف متحدان معاً في إحساسهما بعدم الاكتمال الراديكالي وفي توقهما للكليانية في عواطفهما، وفي فرادة الرأي عند كل منهما. هؤلاء هم الرجال المتفانون حقاً."آلان بلوم
شكلت كتابات ألان بلوم[3] تتمات لمدرسة ليو شتراوس ، حيث يصفها طوني بابرت على النحو التالي :" قرأنا قبل عقد كتاب ألان بلوم بعنوان " انغلاق العقل الأمريكي"[4] وقد أعجبنا كثيراً والسبب في ذلك أن معارضته للثقافة المضادة بدت وكأنها صادرة من القلب. فمثلاً يصف لنا كيف كان يصطحب معه عندما كان أستاذاً في الجامعة أشرطة التسجيل إلى مهاجع نوم الطلاب ليجبرهم على إقفال ما يستمعون إليه من موسيقى الروك ويشاركونه في الاستماع إلى موسيقى موزارت. وقد أدان بلوم وبكل قوة ما كان يقال عن الجامعات بأنها لا تعلّم شيئاً. وكذلك الأمر بالنسبة لي . وكما يذكر كل من قرأ كتاب " انغلاق العقل الأمريكي" فإنه يترك دوماً انطباعاً خاصاً بالذهن بعد القراءة, ولا يهم أين يتصادف إغلاق الكتاب. ومن وسط مواد أخرى يمرر بلوم بعض العبارات التأكيدية وغير المتوقعة، وفي ظاهرها لا تمت للموضوع بصلة, ولا يتابع الحديث عنها، لكنها تبقى في ذهنك لعدة أيام بعد القراءة، لهذا السبب وحده.
ما زلت أذكر اثنين منها. فقد جاء فيما كتبه بلوم أن بعض الرجال كانوا حاضرين عند محاكمة سقراط وكانوا يريدون تبرئة ساحته، وكانوا حقاً "سادة". فماذا يعني بقوله " سادة". لم يسبق لي أن سمعت أحداً يستخدم هذه الكلمة في مثل هذا السياق من قبل. لكن بلوم أسقط من حديثه هذه الكلمة بعد جملة واحدة، ولم يعد للحديث عنها ثانية. وفي موضع آخر من الكتاب ليس بعيداً عن سابقه ذكر أن سقراط كان متهماً بعدم الإيمان بآلهة المدينة وأنه اخترع آلهة أخرى. يقول بلوم: لاحظ أنه لم ينكر التهمة، لكنني تذكرت حسب ظني، أنه فعلاً أنكر التهمة. ودفعتني حيرتي إزاء ما قاله بلوم للبحث، ووجدت الكلمات التي بها أنكر سقراط التهمة في كتاب أفلاطون " دفاعاً عن سقراط"."
وهذا السرد يعكس المكانة التي حققها التيار الشتراوسي وتلامذته في وعي الجيل الجديد فلسفياً وسياسياً في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعله من المفيد التأكيد على أهمية هذا التيار من خلال التنويه إلى المكانة التي كانت له في الجامعات التي درس فيها شتراوس وبلوم وحتى أنه يُذكر أن الخمسينيات قد شهدت ترؤس صديق شتراوس جاكوب كلاين كلية سانت جون في أنابوليس ولعدة سنوات. أما شتراوس نفسه فقد تقاعد عن العمل في جامعة شيكاغو عام 1967 وقضى عاماً واحداً في كلية سانت كليرمونت بكاليفورنيا، ومن عام 1969 حتى وفاته في عام 1973 كان أستاذاً مقيماً في كلية سانت جون في أنابوليس.
شتراوس خرّج مائة من حملة درجة الدكتوراه. كما خرّج بلوم عدداً كبيراً من هؤلاء وهؤلاء أيضاً خرّجوا الآخرين. والآن تخرّج الجيل الرابع. ولكل واحد منهم دور يقوم به سواء كانوا من المتحدثين مع القلة أم من المتحدثين مع العامة ، " فلاسفة" أو "سادة" أو منشقين مهما كانت التسمية. ونذكر أيضاً أن وظيفة في الجامعة تتطلب ما يقرب من عشر إلى عشرين توصية إيجابية غير متحفظة يقدمها آخرون ممن لهم ذات المراكز العلمية. وهذا شيء يفعله دوماً أتباع شتراوس لصالح بعضهم بعضاً بغض النظر عن وجود اختلاف في الرأي. وهذا التنظيم الجامعي يمتد إلى الحكومة من خلال تزايد انتشار "خزانات الفكر" التي تنصب جسوراً بينهم، وهذا هو الجسر الذي عبره وولفويتز وغيره من أتباع شتراوس.
وعلى عكس ما يطالب به العرب أحياناً من ضرورة كتابة الكتب السهلة المباشرة ، فلقد اتبع شتراوس ومدرسته أسلوباً خبيثاً وهو كتابة الكتب الصعبة المملة في البداية كي يفرزوا من يجب أن يكون في مجموعتهم ممن تدفعهم تلك الكتب للتمحيص ، وبالتالي للانخراط في المشروع بقوة . إذ يؤكد الذين عاصروا هذا التيار أن ليس مصادفة أن كتب شتراوس وبخاصة مؤلفاته المتأخرة لا يمكن قراءتها؟ ، فقد تبين لهم لاحقاً أن هذا عمل مقصود. فالغاية من ذلك أن يضمنوا أن الغالبية الكبرى من القراء سوف "يملون" بعد أن لا يجدوا شيئاً فيها سوى بعض المواعظ المألوفة مثل نصائح بأن يكون المرء أخلاقياً ومحباً للوطن ويخشى الله. وبهذه الطريقة قرأ معظم الناس كتاب بلوم بعنوان " انغلاق العقل الأمريكي" خلال الأسابيع العشرة التي كان فيها الكتاب على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، كي لا يجدون فيها سوى المواعظ. والغالبية العظمى من الناس لم يجدوا فيها سوى بعض التفاهات. أما القلة القليلة من "الشباب الأذكياء" – وهو دوماً يذكر " الرجال" و"الشباب" ولا يذكر على الإطلاق "النساء" أو "الناس"- أي تلك القلة من الشباب الأذكياء، سوف تخدعهم تلك الملاحظات غير الملزمة، أو تلك التعليقات المتفرقة التي لا تمت للموضوع بصلة- وسوف يقولون: عليّنا أن نتعمق بقراءته، عليّنا أن نفهم". وبعدئذ يؤخذون جانباً،من قبل التيار نفسه، ويدرّسون بصور إفرادية، دروساً خصوصية. ![5] ، حيث يبدو المشهد وكأنه مشهد من مشاهد التنظيمات السرية الباطنية أو كمشهد من مشاهد حياة المافيا.
• احتمالات استمرارية الشتراوسية في السياسة الأمريكي:
لا يجوز تضخيم دور ليو شتراوس الفلسفي والإيديولوجي كثيراً في تكوين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية. فهذا التيار، كما قلنا ما تورطت"الصاندي تايمز" في11 أيار2003 عندما عنونت مقالة بـ:"كشفناه: معلم طبقة المحاربين في الولايات المتحدة"، وهي بهذا تكاد أن تكرر مقولة أرخميدس:"وجدتها".
والحقيقة أن تيار اليمين الجديد في البنتاغون وأغلبية الإدارة الحالية، قد نهل معرفياً من ليو شترواس، وقد تخرج على يديه كل من نائب وزير الدفاع بول وولفيتز وابراهام شولسكي مسؤول وزارة الدفاع(للخطط الخاصة)، وريتشارد بيرل الرئيس السابق والعضو لاحقاً في المجلس الاستشاري للبنتاغون، وإليوت ابراهامز المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البنتاغون، والكاتبان روبرت كيفن ووليام كريستول. لكن الأبرز هنا أن وولوفيتز وشولسكي قد درسا رسالة الدكتوراه على يديه وبإشرافه.
فبول وولفويتز واحـد مـن أوائـل أتـباع شتراوس وبلوم الذين جاؤوا إلى واشنطن. ومـن خـلال بلوم وبينـما كـان لا يـزال يتـابع دراســته فـي جـامعة شيكاغو تعـرف علـى مؤسس شـركة راند RAND ألبرت وولستتر (Albert Wohlstetter) كما تعرف أيضاً إلـى بول نيتز (Paul Nitze) الخبـير الـرائد فـي مـراقبة الأسلحـة الذي تسلـم منـاصب عليـا فـي معظـم حكـومات ما بعد الحـرب العالمـية الثانـية. ومـع حلـول عقد السبعينيـات كـان وولفويتز شـق طريقـه عبـر بيـروقراطية مـراقبة التسـلح، وقـوى علاقـاته مـع غيـره مـن أتـباع شتراوس الـذين وجـدوا مواقـع لهـم فـي العـديد من لجـان مجلـس الشيـوخ .وقد مـع وولفويتز خـلال هـذه الفتــرة رتشارد بيرل (Richard Perle) وستيفن براين (Steven Bryen) وأليوت أبرامز (Elliot Abrams) الـذي عمل عضـواً فـي هيئـة الموظفـين في مجلـس الشـيوخ لدى السناتور هنري "سكوب" جاكسون ( ديمقراطـي عـن ولايـة واشنطن) ثـم لـدى كليـفورد كيـس ( جمهـوري عـن ولايـة نيوجيرسي) وبعـده لـدى دانييل باتريك موينيهان ( ديمقراطـي عـن ولايـة نيويورك) علـى التـوالي. ويقول بيرل بأنـه تـعرف علـى وولفويتز لأول مـرة عـام 1969 عنـدما أوفـد وولستتر الاثنين معـاً للقـيام ببعـض البحـوث لصـالح السناتور جاكسون.
ومع قناعتنا بأن هذا التيار الإيديولوجي لا يستطيع أن يستمر طويلاً في مجتمع ديمقراطي ليبرالي، ومع تذكر الهزيمة الساحقة لباري غولد ووتر اليميني الجمهوري منتصف الستينيات أمام الديمقراطي المعتدل جونسون، ومع إدراكنا أن الظروف قد تغيرت مع إحساس جزء كبير من الأمريكيين من التفوق على المستوى العالمي والذي غذته الحربان على العراق وقبل ذلك على أفغانستان، إلا أننا على يقين بأن هذا التيار لا يستطيع أن يستمر طويلاً بالنظر إلى نزعة التغيير في المجتمع الأمريكي من ناحية، والرغبة العميقة لدى أطراف في الحزب الجمهوري في عدم الذهاب بعيداً إلى الإيديولوجيا في عصر كان المفكرون يتنبؤون فيه بنهايتها دفعةً واحدة.
ولعل المفارقة الأكثر أهمية هنا هي تلك الأخيرة!؛ إذ أن نهاية عصر الإيديولوجيا التي نظر لها طويلاً بأنه من المتوقع أنها ستفضي إلى المزيد من الإيديولوجيا على أيدي الشعوب المغلوبة والتي تحتاج بسبب القهر والفقر إلى المزيد من الحمولات الإيديولوجية التي تستطيع من خلالها أن تجد لنفسها مكاناً تحت الشمس أملاً في غدٍ أفضل. إلا أن الطرافة المبكية أن تأتي هذه الحمولة الإيديولوجية من الولايات المتحدة الأمريكية حصراً، والأكثر طرافةً أن هذا التيار يريد أن ينقذ تلك الشعوب مما يدعي أنها تعاني منه في وقتٍ تفضل فيه تلك الشعوب أن تغير محيطها بطريقتها وأن تصنع مستقبلها على أساس تراثها وليس على تراث الآخرين.
المشكلة المركزية هنا أن أولئك الذين يتحدثون عن الحرية هم أنفسهم الذين اخترقوها ولا يزالون في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العراق وفي أفغانستان وهم مستعدون للدفاع حتى عن الشيطان في مقابل تحديد مصالحهم.
وهنا تبدو المفارقة الأكثر دفعاً نحو التأمل؛ إذ بينما يميل هذا التيار لإعلان أنه قد أتى من أجل الحرية؛ فإنه لا يجد من الحرية أن يتمسك الناس بمعتقداتهم؛ إذ أن المطلوب من الدول العربية والإسلامية خصوصاً أن تربي جيلاً على طريقته، فمن بين الشروط الأمريكية المطلوبة على قطاع التربية والتعليم هي التقليل من التعليم الإسلامي والإكثار من اللغة الإنكليزية، وهنا تمارس السياسة وليست الإيديولوجية أعلى درجات التحكم والسيطرة بمقدرات وحقوق الشعوب في الاعتناق والتفكير والتمني. والهدف هنا سياسي وهو عدم نمو أي تيار إيديولوجي متشدد في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية لاحقاً كما فعل ابن لادن.
وقد سقنا تلك الأمثلة كي نؤكد على مدى التناقض القائم للحمولة الإيديولوجية لليوشتراوس في التيار اليميني الجديد وبين فعل ذلك التيار السياسي الذي لا يتوافق تماماً مع تلك الحمولة الإيديولوجية، مع إقرارنا بأنه مرجعيته الكبرى.
فليو شتراوس في واقع الحال كان يرفض الفلسفة النسبية والليبرالية معاً باعتبارهما فوضى أخلاقية مطالباً بوضوح أخلاقي، إلا أن وضوحه الأخلاقي المزعوم كان براغماتياً بامتياز، إذ انطلاقاً مما أسماه شتراوس إعادة اكتشاف لأفلاطون حقيقي الذي شوهته الأفلوطونية المحدثة وكذلك فعل المفكرون المسيحيون، رأى شتراوس أن الحقيقة هي مسألة نخبوية لا تستطيع العامة أن تفهمها ولذلك فهو يطالب بتزويد البشر العامة بالأكاذيب عن الحقائق السياسية، على أن تحتفظ فقط النخب بتلك الحقيقة على طريقة الكهنة في الحاضرة الفرعونية التي كانت تحتفظ بالمعرفة مما يعطيها عمقاً وسلطةً وقوة، ولا يجب ولا يستطيع العامة أن يصلوا إليها على أن لا تظهر تلك الحقيقة الخفية إلا عبر الأعمال والأفعال والوقائع، وكأنه كان يعيد على المستوى المعرفي ما رآه ميكيافيل وبعده غوستاف لوبون في"سيكولوجية الجماهير" من أن العامة لا يفهمون وهنالك هرمية طبيعية بين البشر حيث يقرّ شتراوس بأن على الحكام أن يقيدوا البحث الحر وأن يستثمروا ويستغلوا تفاهة الناس وصغائرهم من أجل أن يحفظوا المجتمع مستقراً ومنضبطاً.
وعلى هذا، فإن الأمانة التي يحملها دعاة ليو شتراوس في البنتاغون وبعض مراجع مجلس الأمن القومي لأفكاره، تتجلى في بعدٍ سياسي يتلخص، باختصار شديد، في وضع شعارات أخلاقية تخفي الحقائق السياسية، وهذه بالذات هي لعبة السياسة في كل زمان ومكان. صحيحٌ أنها جزءٌ من السياق الإيديولوجي لتيار إيديولوجي هنا لكنها لا تستطيع ولا بأي صورةٍ من الصور أن تتحول إلى تيار إيديولوجي في المعنى الذي عرفناه في الماركسية وفي التيارات الدينية الشرقية المتشددة أو حتى في النازية.
وعلى هذا فإن الصراع بين هذا التيار كتيار سياسي وتيارات أخرى، سينطوي دائماً تحت ملكوت الفعل السياسي وليس تحت بريق الإيديولوجية وحدها، فهؤلاء الذين يحكمون في الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، ليسوا من النوع الذي يستطيع الاحتفاظ بالسلطة لاعتبارات إيديولوجية محض ولفترات طويلة، ومع الوقت سينكشف ذلك البون الشاسع بين العناوين السياسية والمحتويات الإيديولوجية والخفية من أنها معادية لأعراف الديمقراطية في المجتمعات الحديثة ومناقضة أيضاً للسياسات المعلنة.
لم يكن لهذا التيار أن ينهل من ليو شتراوس طويلاً لأن الأخير لم يكن يؤمن بأن هنالك مجموعة بشرية بعينها تستطيع قيادة النوع الإنساني على نحو يبعث على العدالة، بل كان يعيب على الاتحاد السوفياتي العناصر العولمية التي نعيبها اليوم على التيار الإيديولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا ما استطاع الاتحاد السوفياتي أن يستمر سبعين عاماً تقريباً كتيار يحاول فرض إيديولوجيته العولمية على الآخرين فإن العولمة التي تبشر بها وقائع الاقتصاد العالمي ليست من نفس الطراز، ولا تستطيع أن تكون حامياً حقيقياً وضماناً لاستمرارية التيار اليميني الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية. فمن ناحية داخلية سيكتشف الأمريكيون الأكاذيب النخبوية بذرائع أن العوام ليسوا قادرين على بلوغ الحقيقة التي يمكن أن تدمر أخلاقهم حسب فلسفة ليو شتراوس التي يتبناها المحافظون الجدد، وسيتكفل تيار آخر في الحزب الجمهوري بكشف ذلك أو تيار الحزب الديمقراطي للقيام بهذا الدور.
الأهم أن علينا دائماً أن نتذكر أن اليوتوبيات تحتاج إلى ديكتاتوريات كي تنمو وتسمر.
أما الوجه الثاني الذي سيكشف هذه المعادلة فيتمثل بعدم قدرة هذا التيار على أن يبحر طويلاً في عالم من الاقتصاد الحر لا يستقيم مع محاولة تيار اقتصادي ـ سياسي أن يفرض معادلته على العالم بأسره. فالعولمة شيء آخر مختلف عما هو الحال لدى التيارات الإيديولوجية.
ما يجب أن نعرفه جيداً أن تيار اليمين أو المحافظين الجدد ليس نافذاً بالصورة التي تبدت به أفكاره في الموضوع العراقي. وهم بحاجة دائماً إلى ثقل الآخرين من النافذين في الحزب الجمهوري وخصوصاً في أوساط المحافظين فيه. إذ أن التيار المحافظ النافذ في الحزب الجمهوري يعتبرهم ليسوا إلا زمرة (مثقفة) لا علاقة لها بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأنهم في خدمة قوى خارجية، فالحقيقة النسبية اليوم أن القوتين السياسيتين الرئيستين في الولايات المتحدة هما الجمهوريون والديموقراطيون
وإذ ينقسم الجمهوريون إلى قسمين : الجمهوريون المعتدلون، وخير من يمثلهم الرئيس(جورج بوش الأب) وكبار رجال إدارته، وهم يؤمنون بأقل قدر من التدخل للإدارة في التفاصيل، وضرورة عدم التدخل بالعالم الخارجي إلا عند تهديد مباشر للمصالح الأمريكية ، وعدم فرض ضرائب جديدة وإيلاء مصالح الشركات الكبرى(النفط والسلاح) .فإن تياراً ثانٍ من الجمهوريين هو التيار اليميني المتشدد ومنهم نوركويست غروفر وكارل روف (زعيم حملة جورج بوش الانتخابية)، ويرى ضرورة إلغاء جميع برامج الرعاية الاجتماعية والصحية، ويدافع عن حقوق المواطنين الأمريكيين بحمل السلاح وهو لا يعير اهتماماً للحمولة المُفرطة للإيديولوجيية كما يفعل المحافظون الجدد .
وإذ يقلل البعض من تأثيرهم المستقبلي وهذا ما نُقره ، إلاّ أن تأثيرهم في رسم الحرب على العراق وتنفيذها مستغلين خطأً تاريخياً تمثل بأحدات الحادي عشر من أيلول ، حقيقي ولا يجب الاستهانة به وإلاّ لغدت الرؤية بعين نصف مغمضة!.
_______
*د.عماد فوزي شُعيبي / استاذ الإيبستمولوجية في جامعة دمشق
---------
هوامش:
[1] عرضنا في الجانب المحافظ جزءاً من أفكار ليوشتراوس التي تستخدم الدين لعبة للسيطرة على الناس.
[2] Children of Satan,Lydon,H.La Rouche,Tony Papet , 4 april 2003,Jr.La Rouchin 2004.Internet referance.
[3] كان مرض الإيدز سبباً في وفاة ألان بلوم.
4] حقق كتاب " انغلاق العقل الأمريكي" ثروة هائلة، وجعل من بلوم مليونيراً وحوله من أستاذ في الجامعة عنده ميل نحو الرفاه لكن دون أن يقدر على ذلك. وأموال حق النشر التي جاءت من اليابان وحدها قدرت بالملايين .
[5] طوني بابرت ، المرجع السابق
http://www.emasc.com/print.asp?ContentId=15