محاضرات سنة أولى ماستر

شهد مجال بناء السلام زخما كبيرا فيما يتعلق بتطور مفاهيم واقترابات التعامل مع ظاهرة الصراعات في العالم، فعلى سبيل المثال انتقلت الأدبيات في هذا المجال بمجرد الحديث عما يعرف بمصطلح السلام إلى التمييز بين السلام الإيجابي والسلام السلبي مما طور الاقترابات بمجرد إدارة وتسوية الصراع إلى تحويله إلى الاتجاه بناء علاقات إيجابية من المتنازعين تكفل بناء السلام المستدامة.
1- بناء السلام بين المفهوم والأبعاد:
ظهر مصطلح بناء السلام أول مرة على يد العالم يوهان غالتونغ في منتصف سبعينات القرن الماضي في دراساته التي حملت 3 اقترابات للسلام: صنع السلام، حفظ السلام، بناء السلام، حيث أوضح أن بناء السلام يبنى ويتأسس على بنى وهياكل تزيل وتحول أسباب وأنماط الصراع في القطاعات المجتمعية كافة، بما فيها الهياكل العسكرية والاقتصادية والسياسية ويوفر في الوقت نفسه خيارات بديلة عن الحرب في المواقف والسياقات التي يكون فيها الصراع أمرا واردا.
وبهذا المعنى ووفق هذا الطرح الذي يقدمه غالتونغ وصلته بمفهوم بناء السلام لاسيما عند النظر له كمسعى لإيجاد سلام مستدام من خلال التعامل مع الأسباب الجذرية للصراع.
-       يعتبر جون بول ليدراخ أحد أبرز المنظرين في دراسات السلام، حيث أسهم في تأصيل مفهوم بناء السلام إذ عده أكثر من مجرد إعادة بناء عقب التوصل إلى الاتفاق لتسوية الصراع، وبالتالي هو عملية شاملة تتضمن مجموعة كاملة من الاقترابات والعمليات والمراحل لتحويل الصراع باتجاه علاقات سلمية ومستدامة.
وبنى ليدراخ نظرته هذه على مفهومي العلاقات والسلوكيات المتبادلة بين المتنازعين على أنها الصراع ومفتاح حله، فضلا عن ذلك فقد طرح ليدراخ مفهوما أخر هو تحويل الصراع conflict transformation[url=file:///G:/master/%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85 %D9%81%D9%8A %D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B7%D9%82 %D9%85%D8%A7 %D8%A8%D8%B9%D8%AF %D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B2%D8%A7%D8%B9/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%AA (Autosaved).docx#_ftn1][1][/url]، الذي عده اقتراب كلي متعدد الأوجه لإدارة الصراع في مراحله كافة بعبارة أخرى هو: "عملية مستمرة تسعى لبناء العلاقات والتوجهات وأنماط السلوك والهياكل من الجانب السلبي إلى الإيجابي"، وعلى ذلك فإن أنشطة بناء السلام تسبق التوصل إلى اتفاقات التسوية وتفقدها أيضا لمعنى إن السلام ليس مجرد محطة تصل إليها في مدة زمنية معينة وإنما هي عملية ديناميكية (هاذين المفهومين يتركزان على بناء سلام مستدام).
-       تعريف هيئة الأمم المتحدة:
بدورها أسهمت في تطوير مفهوم بناء السلام عندما ظهر أول مرة أدبياتها في تقرير الأمين العام لها بطرس بطرس غالي عنوانه "أجندة من اجل السلام" عام 1992، والذي جاء استجابة لطلب من مجلس الأمن من اجل إعداد ورقة تتناول تحليلا لدور الأمم المتحدة في مجالات السلام، وإلى جانب التوصيات الخاصة التي طرحتها الأجندة بخصوص الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ السلام، فقد أضاف أداة رابعة وهي بناء السلام، الذي اقترن بتوصيف مرحلة ما بعد الصراع، حيث شدد بطرس غالي على الحاجة إلى إحداث تغيير في ممارسة بناء السلام ليتم الانتقال التركيز على مجرد وقف العنف إلى إعادة البناء في مرحلة ما بعد الصراع، وما يتضمن ذلك من اقتراب مؤسسي وهيكلي، كما أدى التقرير إلى وقف الصراعات من خلال صنع السلام والحفاظ عليه وصونه من خلال ما يعرف بحفظ السلام، وأخيرا من خلال مساعدات إرساء السلام من خلال تشييد المؤسسات والبنى التحتية وإقامة علاقات جديدة سلمية بين المتنازعين، ولم يتم فهم عملية بناء السلام في هذه المرحلة باعتباره يسعى إلى تحويل المجتمعات التي تشهد صراعات داخلية أو خارجية بل كمفهوم شامل يسعى إلى تحقيق الاستقرار وفقا للوثيقة التي طرح فيها المفهوم لأول مرة حيث عرف بطرس غالي عملية بناء السلام بأنه: "العمليات أو الأعمال التي تهدف لتحديد ودعم الهياكل التي من شأنها تعزيز السلام بهدف الحيلولة دون الانخراط في الصراع مجددا"، وعليه الأمم المتحدة ترى في بناء السلام على أنه أكثر من مجرد إنهاء الصراع الذي قد يتحقق بأساليب أخرى، على غرار توازن القوى والتهديد باستخدام القوة، هذه الأساليب قد تحقق إنهاء الصراع وإرساء السلام (هذا السلام يدعى بالسلام السلبي) وإنما يهدف إلى بناء السلام الإيجابي من خلال إزالة الأسباب الجذرية للنزاع، بحيث لا يصبح للأطراف الدافع لاستخدام العنف لتسوية الخلافات فيما بينها.
كما أكد المبعوث السابق للأمم المتحدة "الأخضر الإبراهيمي"، الذي عمل على أكثر من صراع مثل: العراق، أفغانستان، وسوريا، في تقريره المتعلق بإصلاح عمليات حفظ السلام، حيث عرف بناء السلام بأنه مجموعة من الأنشطة التي تتم على الجانب الآخر من الصراع والتي تهدف إلى إعادة تجميع أسس السلام وتقدم الأدوات التي تبنى على هذه الأسس ما هو أكثر من مجرد غياب الحرب.
ولذا فإن بناء السلام يتضمن ثلاث مراحل تبدأ قبل اندلاع الصراع، وتفجر العنف من خلال إجراءات وقائية لمنع الصراع، ثم مرحلة إدارة الصراع في أثناء، ثم مرحلة إثارة الصراع في أثناء اندلاعه، وأخيرا مرحلة ثالثة بناء السلام فيما بعد انتهاء الصراع ويشمل أنشطة ومبادئ تهدف إلى التعامل مع الأسباب الجذرية للصراع من أجل بناء علاقات اجتماعية وهياكل للدولة قادرة على إضفاء السلام واستدامته.
أو نسق من الأنشطة تتراوح بين إجراءات ما قبل الصراع التي تهدف إلى الحيلولة دون اندلاع الصراع، وإثارة الصراع لاستعادة الاستقرار، فضلا عن إعادة البناء والإصلاح وإعادة التأهيل في مجتمعات ما بعد الصراع.
وعلى ضوء ذلك يمكن الإشارة إلى ملاحظتين أساسيتين حول مفهوم بناء السلام:
1- إن بناء السلام أصبح الآن يفهم بصورة أوسع مما كان عليه سابقا إذ يتضمن جميع الأنشطة الخاصة بمنع الصراع وتحويله وإيجاد طرق سلمية في إدارته إضافة إلى إيجاد ظروف اجتماعية واق وسي مواتية لإنجاز تنمية وسلام دائم، وبالتالي فإن بناء السلام يختلف عن مفهوم فرض السلام الذي يعني استخدام القوة لإنهاء العنف، كما يختلف أيضا عن حفظ السلام الذي يعني التهديد باستخدام القوة لمنع الأطراف من الانخراط مجددا في الصراع المسلح، بل انه أوسع واشمل من عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على الرغم من انخراطها في بعض أبعاد وجوانب بناء السلام لاسيما في الأبعاد العسكرية والأمنية والسياسية.
2- إن بناء السلام لا يقتصر على أنشطة وبرامج يتم تنفيذها في مرحلة ما بعد الصراع وهو المفهوم السائد لدى المنظمات الدولية، كما يجب أيضا –ألا يختصر هدفه على الحيلولة دون الانتكاس إلى مرحلة الصراع مرة أخرى -فبناء السلام يشكل ركيزة لصنع السلام وحفظ السلام من خلال التعامل مع قضايا الصراع الأساسية والعلاقات بين أطرافه.

---

[url=file:///G:/master/%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85 %D9%81%D9%8A %D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B7%D9%82 %D9%85%D8%A7 %D8%A8%D8%B9%D8%AF %D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B2%D8%A7%D8%B9/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%AA (Autosaved).docx#_ftnref1][1][/url] (مقال مترجم للأستاذ حمشي فهد، مجلة الأمن والتنمية)

بارك الله فيك دوما وأبدا.