أما خسائر الجيوش العربية فطفيفة قطعاً وهي لا تتعدى ألفي جندي أو نحو ذلك وأما الفلسطينيون فقد تكبدوا آلاف القتلى فضلاً عن أن تسعمائة ألف فلسطيني قد شردوا من ديارهم وصاروا مجرد لاجئين مبثوثين في جملة من الأقطار العربية وغير العربية ثمة مجموعة من الأسئلة شديدة الصلة بأسرار عام النكبة([12]) وأهم هذه الأسئلة هي:
1- ما دامت الدول العربية تعلم سلفاً أن الغربيين ما كانوا يسمحون لها بأكثر من حملة عسكرية فلماذا بادرت بالتدخل
2- لماذا زجت بجيوشها في حرب خاسرة سلفاً ؟
3- لماذا كان عدد الجنود العرب في فلسطين طفيفاً جداً إذا ما قورن بعدد سكان العالم العربي وإمكانياته الضخمة
4- لماذا تطابق مع عدد الجنود الصهاينة أو نقص عن عددهم؟
5- لماذا سارعت الجيوش العربية إلى القبول بالهدنة الأولى مع أن الصهاينة كانوا الطرف الضعيف يوم دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين؟
6- لماذا لم يتدخل الجيشان الهاشميان عندما استعر القتال بين المصريين والصهاينة؟
7- لماذا لم ترسل مصر مزيداً من الأسلحة والذخائر والجنود إلى فلسطين عندما تفوق الصهاينة على المصريين؟
8- لماذا سمح الإنجليز لجيش الإنقاذ بالدخول إلى فلسطين قبل انسحابهم منها علما بأن الإنجليز كان لهم سبعة وسبعون ألف جندي في فلسطين عند بداية عام النكبة؟
9- لماذا أحجمت الجامعة العربية عن تسليح الفلسطينيين ولاسيما بعدما أبدوا بطولات نادرة في يافا والقدس ولوبية وسلمى والبروة والطيرة وجبع وعين غزال وسواها؟
وهناك أسئلة كثيرة أخري وتفاصيل قد لا يلمها إلا كتاب قائم بذاته وأخيراً للعقل أن يتساءل عن جدوى قيام الكيان الصهيوني وعن الدوافع التي دفعت العالم الغربي إنشائه على حساب العرب ثم عن مصير هذا الكيان والجهة التي تقرر هذا المصير لا مبالغة في القول بأن الكيان الصهيوني لا نفع فيه لأحد على الإطلاق بما في ذلك اليهود أنفسهم بل لعله لا يعادل الآلام التي ألحقها بالصهاينة وحدهم إذ لا ريب في أنهم قد تكبدوا عشرات الألوف من الإصابات خلال الأعوام الستين الأخيرة وفضلا عن ذلك فإنه مشروع باهظ التكاليف ولا مردود له على الإطلاق وأغبى ما في هذا المشروع أنه لا يريد من الفلسطينيين أن يفعلوا شيئا سوى الترحيب بأبناء شعب الله المختار العائدين إلى أرض أجدادهم وإن فعل الفلسطينيون أيما شيء أخر فهم المخربون المناهضون للحضارة والإنسانية معاً.
خلاصة ما قيل أن الكيان الصهيوني ما بني على أرض فلسطين إلا ليحقق ثلاثة أغراض: منع العرب من الاتحاد واستنزاف طاقات العرب في الصراع وعرقلة نموهم وتحولهم إلى قوة عالمية وحماية المصالح الإمبريالية في العالم العربي ولا مبالغة في القول بأن هذا كله لا يصمد أمام النقاش الجدي وذلك لأن الكيان الصهيوني يحث العرب على الاتحاد بدلاً من أن يرسخ التجزئة([13]) إذ من شأن الشعوب أن تتحد أمام الأخطار والتحديات المصيرية فالعرب يستنزفون طاقاتهم في الحاجات الاستهلاكية والترف وحماية المصالح الإمبريالية التى أوكلت إلى الطبقة الخائنة في العالم العربي إنها طبقة الفنادق الباذخة والسيارات الفاخرة والسجائر الأجنبية والمشروبات الروحية والمجوهرات وما إلى ذلك وأغلب الظن أن هذه الطبقة لن تغادر الفنادق إلى الخنادق في أي يوم من الأيام والأقرب إلى الصواب أن يقال بأن الكيان الصهيوني لم ينشأ لكي يحارب الوحدة العربية وإنما حوربت الوحدة العربية لكي ينشأ الكيان الصهيوني ولكي لا يزول من الوجود أما مصير الصهاينة فخاضع للاحتمالات أو قُل للمتغيرات التي سوف تطرأ على حركة العالم بوجه عام وعلى حركة العالم العربي بوجه خاص فأحسن دفاع يمكن أن يلجأ إليه العرب هو إغلاق حدودهم في وجه الصهاينة وعند ذلك لن يكون أمامهم إلا أن يتعفنوا في داخل هذا الغيتو الذي لم يتورعوا عن ارتكاب أبشع الجرائم من أجل إنشائه والحقيقة أن مصير الصهاينة سوف يحدده الشارع العربي وليس الجيوش العربية ولا الحكومات العربية فإذا أصر الشارع العربي على الرفض فإن الكيان الصهيوني سوف يتلاشى وينقرض على الرغم من إرادة الغربيين.
إن هذه الأرض لا مستقبل لها إلا إذا تكاملت بمصر وبقية الهلال الخصيب وصارت جزءاً من منظومة عربية متجانسة ويقينا أنها لن تصبح كذلك ما دامت في حوزة الصهاينة الذين جعلوا منها مجرد لاعب ثانوي للإمبراطورية الأمريكية ولمن له مصالح في المنطقة وعلى الرغم من مرور أعوام عديدة على ولادة الكيان الصهيوني المفتعل والمتطفل لم يحسم وجود هذا الكيان الموقوت بحكم الناموس الكلي الذي يتحكم بمسار التاريخ فما كانت فلسطين على الدوام إلا ممراً للغزاة وإلا واحدة من مناطق نفوذ القوى العظمى إن الشعب الفلسطيني رغم تضحياته لن يقبل بالتنازل عن حقوقه في العودة إلى أرضه ودحر الكيان الصهيوني من أرض فلسطين([14]).
الهيئة العربية العليا: بعد الحرب العالمية الثانية أعاد الشعب الفلسطيني ترتيب نفسه فتأسست الهيئـة العربية العليا في دمشق في 11/يونيو/1946م وكانت برئاسة المفتي الحاج أمين الحسيني وعضوية أمناء سر أهم الأحزاب الموجودة في فلسطين والأحزاب هي:
1- حزب الاستقلال: تأسس عام 1932م برئاسة عوني عبد الهادي ومن أبرز أعضائه في غزة حمدي الحسيني وهو متعاطف مع الشيوعيين.
2- حزب الدفاع الوطني: تأسس عام 1934م برئاسة راغب النشاشيبي ومن أبرز أعضائه في غزة عادل الشوا
3- الحزب العربي الفلسطيني: تأسس عام 1935م برئاسة جمال الحسيني وهو مؤيد للحاج أمين الحسيني ومن أبرز أعضائه الحاج موسى الصوراني وقد شكل الحزب العربي فرقة الفتوة وهي فرقة شبابية شبيهة بفرق الكشافة وكان يرأسها كامل عريقات.
4- حزب الإصلاح: تأسس عام1935م برئاسة الدكتور حسين فخري الخالدي ومن أبرز أعضائه فهمي بك الحسيني ومحمد أبو خضرة.
5- حزب الكتلة الوطنية: تأسس عام 1935م برئاسة عبد اللطيف صلاح وأبرز أعضائه في غزة عبد الرؤوف خيال وطاهر أبو رمضان.
أما الأحزاب التي لم يتم تمثلها في الهيئة العليا نذكر منها: عصبة التحرر الوطني وهو الحرب الشيوعي الفلسطيني حالياً ومؤتمر الشباب العربي تأسس عام 1935م برئاسة يعقوب الغصين وأبرز أعضائه في غزة عاصم بسيسو الذي أصدر صحيفة الكفاح والنجادة وهي فرقة شبابية شبيهة بفرق الكشافة وكان يرأسها المحامي محمد نمر الهواري([15]).
قد حظيت هذه الهيئة العليا بدعم الهيئات والأحزاب والفئات الفلسطينية وبالتفاف الشعب الفلسطيني حولها واعترفت الدول العربية بها ممثلة للفلسطينيين غير أنها عانت من عدم قدرتها على العمل المتناسب مع خطورة المرحلة في داخل فلسطين بسبب استمرار الاستعمار البريطاني في حصار قيادتها حيث منع عدداً من قياداتها من دخول فلسطين وبالذات الحاج أمين الحسيني كما عانت اللجنة من خلاف رئيسها مع عدد من الأنظمة العربية وخصوصاً الأردن والعراق بسبب محاولة الأنظمة العربية فرض إرادتها على الهيئة وتجاهل قيادتها وتجاوزها بحجة أن قضية فلسطين قضية عربية وأن الأنظمة العربية هي من يناط بها عملية التحرير بينما كانت من الأنظمة العربية لا تزال تحت سيطرة النفوذ الاستعماري القوي لبريطانيا والنفوذ المتصاعد لأمريكا حيث يتم رسم سياسات هذه الدول وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
حتى عندما دخلت الجيوش العربية فلسطين في شهر مايو/1948 فإنها منعت الحاج أمين الحسيني من دخول فلسطين أو الوجود في الأماكن التي سيطرت عليها ولم تمكِّن الأنظمة العربية الحاج أمين ورفاقه من تولي تنظيم الشعب الفلسطيني وقيادته في المناطق المحررة بل باشرت بنفسها نزع أسلحة الفلسطينيين وخصوصاً جيش الجهاد المقدس الذي نظمته الهيئة العربية العليا.
حكومة عموم فلسطين ولدت على فراش الموت
كانت الهيئة العربية العليا قد قررت إنشاء حكومة فلسطينية لملء الفراغ الناتج عن انسحاب بريطانيا من فلسطين وسعت خلال أشهر 3-4 والنصف الأول من 5/1948 لإقناع الحكومات العربية بذلك ولكن دون جدوى.
مؤتمر غزة: في 1/أكتوبر/1948 انعقد في غزة مؤتمر حضره عدد من أهل الرأي لفلسطين دعت إليه الهيئة العربية العليا لتنفيذ قرارها الذي أصدرته في القاهرة بتاريخ 5/يناير/1948 وهذا نصه:
كانت الهيئة العربية العليا قد اعتمدت إيجاد نظام سياسي في البلاد يقوم على تحقيق الرغبة العامة في التمثيل الصحيح فبدأت الخطوة الأولى من ذلك بتشكيل اللجان القومية وقررت اتخاذ الخطوات الأخرى لإقامة هذا النظام وذلك بتشكيل إدارة قومية عامة لفلسطين بأكملها على أن تتألف هذه من:
1- رئيس أعلى.
2- مجلس وطني عام.
3- مجلس تنفيذي له رئيس مسئول ينال ثقة المجلس الوطني العام.
وستعمل الهيئة العربية العليا على تنفيذ هذا المشروع خلال الأشهر القادمة.
إعلان حكومة عموم فلسطين: اجتمع المؤتمرون في غزة وكان عددهم خمسة وثمانون عرف منهم ثمانية أعضاء في الهيئة العربية العليا وعشرة من رؤساء بلديات وأربعة عشر من رؤساء المجالس المحلية وواحد وعشرون من مندوبي اللجان القومية واثنا عشر من أعضاء الوفود التي انتدبت في الماضي للدفاع عن القضية الفلسطينية في أوروبا وستة من مشايخ العشائر وأربعة ممثلون لنقابات المهندسين والأطباء والصيادلة والمحامين عرف منهم الحاج أمين الحسيني وأحمد حلمي باشا وعلي حسنا وميشال أبكاريوس والشيخ حسن أبو السعود ورجائي الحسيني ويوسف صهيون وأمين عقل والدكتور فوني فريج وميشال عازر وأميل الغوري وحمدي الحسيني وواصف كمال وأديب الريماوي ومحمد علي الكيالي وأكرم زعيتر ومحمد العفيفي وفارس سرحان وخليل حليف وفيصل نابلسي وحسين أبو ستة وحسن جمعة الإفرنجي وحسن أبو جابر وتوفيق جبران وخليل السكاكيني وأحمد عبد العزيز مهنا ومحمد رجب أبو رمضان ورشدي الإمام الحسيني ومحمد علي الصالح وعبد الله سمارة ومحمد صبري عابدين وفائق بسيسو ويوسف الصايغ والسيد أبو شرخ وأحمد العكي وعلي رضا التحري رفيق التميمي ومحمد رفيق اللبابيدي وموسى عمران وعوني عبد الهادي وسعيد حمدان وفهمي الأغا وعبد الرحمن الغرا ومحمد عواد علي أحمد العطار وأحمد محمد حجة وعيسى نخلة وطلعت يعقوب الغصين ورشاد يوسف السقا وحسني خيال وكامل القاضي وعبد الرحيم أبو لبن وعبد ربه أبو شقرة وحسن محمد الزير ومحمد أحمد أبو عاذرة وزكي محمد عبد الرحيم وأنور نسيبة.
ألفوا مجلساً سمي المجلس الوطني([16]) انتخب هذا المجلس حكومة أسماها حكومة عموم فلسطين أصدر المجلس الوطني قراراً جاء فيه ما يلي:
بناء على الحق الطبيعي والتاريخي للشعب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
هذا الحق المقدس الذي بذل في سبيله زكي الدماء وقدم من أجله أكرم الشهداء وكافح دونه قوى الاستعمار والصهيونية التي تألبت وحالت بينه وبين التمتع به فإننا نحن أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة هاشم هذا اليوم الواقع في الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة 1367 وفي 1/أكتوبر/1948 استقلال فلسطين كلها التي يحدها شمالاً سوريا ولبنان وشرقاً سورية وشرق الأردن وغرباً البحر الأبيض المتوسط وجنوباً مصر استقلالاً تاماً وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة يتمتع فيها المواطنون بحرياتهم وحقوقهم وتسير هي وشقيقاتها الدول العربية متآخية في بناء المجد العربي وخدمة الحضارة الإنسانية مستلهمين في ذلك روح الأمة وتاريخها المجيد مصممين على صيانة استقلالنا والذود عنه.
عهد برئاسة الحكومة إلى أحمد حلمي باشا عبد الباقي فتولى جمال الحسيني وزارة الخارجية وميشال أبكاريوس وزارة المالية وعوني عبد الهادي وزارة الشؤون الاجتماعية ورجائي الحسيني وزارة الدفاع والدكتور حسين فخري الخالدي وزارة الصحة والدكتور فوتي فريج وزارة الاقتصاد وعلي حسنا وزارة العدل ويوسف صهيون وزارة الدعاية وأمين عقل وزارة الزراعة وانتدب أنور نسيبة سكرتيراً لمجلس الوزراء.
أذاع رئيس الوزراء فور تأليف الحكومة بياناً جاء فيه ما يلي:
في 15/مايو/1948 زال عن بلادنا المقدسة الانتداب البريطاني الذي لم تعترف به الأمة في أي وقت من الأوقات وزالت بذلك العقبة الكأداء التي كانت تقف في سبيل ممارسة جميع الحقوق التي تمارسها الأمم المستقلة وصار من حقوقها ومن واجبها أن يتولى أبناؤها بنفسهم شؤونهم السياسية والإدارية والمدنية وأن يعملوا جاهدين على إنقاذ وطنهم وصيانة أبنائهم وذرياتهم ولئن حالت ظروف قاهرة فور انتهاء الانتداب دون أن يخطو الخطوة الإيجابية في هذا السبيل فقد ذللت هذه العقبات الآن ولم يعد هناك أي مبرر للتأخير.
لذلك قررنا بعد الاتكال عليه تعالى واستناداً إلى حقنا الطبيعي وإلى تأييد الحكومات ومؤازرة البلاد العربية حكومات وشعوباً وإلى قرارات الجامعة العربية تأليف حكومة لفلسطين بكامل حدودها المعروفة قبل 15/مايو/1948 لتضطلع بالمهام التي يطلبها الموقف واستكمال أسباب العمل باعتبارها حكومة ديمقراطية مسئولة أمام مجلس وطني تمثيلي إلى أن يتيسر القيام بانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستور البلاد وتقرر نظام الحكم فيها على أن تكون القدس عاصمة البلاد وأن تستقر الحكومة مؤقتاً في مدينة غزة إحدى بلدان هذا القطر العربي الكريم.
في هذا اليوم التاريخي الذي نعلن فيه تأليف هذه الحكومة الفتية ندعوك باسم الوطن المقدس إلى توحيد الكلمة والعمل صفاً واحداً لصد العدوان الأثيم عن مقدساتك وتراث آباءك وأجدادك ومهد أبنائك وأحفادك وسجل مفاخرك وأمجادك وإلى التعاون الوثيق مع الجيوش العربية الباسلة التي تحارب في سبيل تحرير بلادك لتصل عالي الرأس إلى أهدافك أمدك الله بعونه وشملك بعنايته وأيدك بروح من عنده.
هذا وإننا لنرى من الواجب أن نرفع آيات الشكر والامتنان مشفوعة بالتعظيم والتكريم لأصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك العرب ورؤساء جمهورياتهم وأمرائهم ونزجي الشكر لجامعة الدول العربية ورجالات العرب والجيوش العربية وقوادها وللمناضلين الأبرار وللأمم الإسلامية والشرقية التي آزرت قضية فلسطين بما أبدوه من عطف سام وشعور نبيل على عرب فلسطين ولما بذلوه من مساعدات كريمة في سبيل إنقاذ البلاد المقدسة.
وإننا لنقف خاشعين لذكرى الشهداء الأبرار الذين سقطوا في ميادين الشرف والجهاد دفاعاً عن الدين والوطن والكرامة معاهدين الله تعالى والأمة العربية في فلسطين والوطن العربي الكبير على أن نواصل العمل بكل ما في قلوبنا من إيمان وما أوتينا من قوة إلى أن يتم بعون الله وعنايته سدد الله خطانا إلى أقوم سبيل.