خيبة الاستقلال
[rtl]
بحلول عام 1947 أعلن وزير الخارجية البريطاني كلمنت آتلي بأن بريطانيا ستغادر الهند "في آب 1948 كأقصى حدٍّ". ولكي يمهِّد لانتقال السلطة عيَّن آتلي في منصب آخر نائب للملك في الهند اللورد ماونتباتن الذي وصل إلى الهند في آذار ولعب وزوجَه دوراً غامضاً جداً في تلك الفترة. وقد تشاور نائب الملك مع الجانبين؛ وعندما أعلم نهرو وغيره من قادة المؤتمر أن الرابطة الإسلامية تفضل الثورة على قبول حكومة واحدة تشمل الهند بأسرها، أجابه زعماء المؤتمر، والأسى يحزُّ في نفوسهم، بأن باكستان منفصل خير من العماء، من ناحية، وخير من استمرار الحكم البريطاني، من ناحية ثانية. وهكذا جرى: أُعلِنَت الهند وباكستان دولتين مستقلتين منفصلتين في 15 آب 1947. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
غاندي متوكئاً على مريدتين أثيرتين من أقربائه كان يسميهما "عكازيه" إبان جولة محاضرات.
[rtl]
كان الاستقلال بهذه الشروط هزيمة حقيقية بنظر غاندي (وصف التقسيم بأنه أشبه بـ"تشريح كائن حي"!). فقبلئذٍ بوقت طويل، يوم كان ما يزال في جنوب أفريقيا، أعلن بأن "الامتحان الفاصل" لعمله هو تعزيز الوحدة الوطنية بين المسلمين والهندوس. أما الآن فكانت الطائفتان تغليان حقداً، ولم يعد يستمع إلى ندائه من أجل السلام والتآخي إلا ثلة من المريدين المخلصين. لذلك نعت الانفصال بـ"المأساة الروحية" ورفض المشاركة في احتفالات الاستقلال. وللمرة الأولى في حياة غاندي، بدأ أناس عاديون يتعرضون له؛ فكان الهندوس يسبُّونه زاعمين أنه يفضل عليهم المسلمين (لأنه طالبهم بتقديم تنازلات كبيرة للأقلية المسلمة ضماناً لحقوقها)؛ وكان المسلمون يتهمونه بأن يعرقل قيام دولة باكستان المستقلة. [/rtl]
بتر الاستقلالُ حوالى ربع أراضي الهند، وقسَّم كلاً من البنجاب في الشمال الغربي والبنغال في الشرق إلى شطرين. لقد كانت الاضطرابات بين الهند والمسلمين، التي اصطلح البريطانيون على استحياء على تسميتها "فوضى طائفية"، أمراً شائعاً في الهند، لكن تاريخ الهند لم يعرف يوماً ما يشبه حرب الإبادة الأهلية المروِّعة التي نشبت في أعقاب جلاء البريطانيين. فمن جراء الانفصال اقتُلِع 12 مليوناً من البشر من جذورهم وهُجِّروا، وتسبب نزوحهم في مجزرة متبادلة قلما فاقتها مجازر أخرى وحشية وهمجية: صارت سواقي الهند حمراء من دم الهندوس والمسلمين، وفاق عدد القتلى أيامئذٍ الـ500000، فيما لم يُعرَف قط عدد الجرحى والمنتهكات أعراضهن أو المخطوفين إلى الآن. *
[rtl]
عندما احتفلت نيودلهي بجلاء البريطانيين من الهند في 15 آب، كان غاندي في كلكتَّا حيث ذهب في محاولة لوقف المذبحة. كان يومئذٍ في الثامنة والسبعين، وقد رأى بأمِّ عينه أن عمله على تكريس التآخي بين الهنود الذي دام 32 سنة صار يوطئ بالأقدام، وأن خيانة تعليمه في اللاعنف قد أجهضت عملية الاستقلال كما كان يتمناه. لكن جماهير الهند ظلت على حبِّها له؛ فكانت الحشود تهب لسماعه يتكلم. فمع أن الشعب نبذ مذهبه فقد ظل يعتبره قديساً؛ وفي المناطق التي زارها توقف القتال سريعاً. لكن الزمن كان يعانده؛ إذ قام متطرفون بتحريض شجارات، وانفجرت قنبلة في إحدى اجتماعات الصلاة التي عقدها في نيودلهي. وفي 1 أيلول 1947، عندما اقتحم حشدٌ غاضب من غوغاء الهندوس المنزلَ الذي كان مقيماً فيه في كلكتَّا شرع غاندي في صيام جديد "لا ينهيه حتى تثوب كلكتَّا إلى رشدها". وبالفعل لم يُنهِ المهاتما صومه حتى نال وعداً من زعماء الهندوس والمسلمين كافة بألا تتكرر أعمال القتل. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
مريدو غاندي ساهرين عليه إبان صومه الأخير عام 1948. عبثاً احتج غاندي على سوء معاملة الهندوس لـ"إخوانهم المسلمين".
[rtl]
لم ترق دعوات غاندي إلى الإخاء بين الهندوس والمسلمين للكثيرين، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية الأصولية، بتأليب من جهات "مجهولة"، خيانة عظمى. وفي 13 كانون الثاني بدأ غاندي آخر صوم له في دلهي، مصلياً من أجل وحدة الهند. وفي 30 كانون الثاني عام 1948، كان غاندي ذاهباً متأخراً إلى إحدى اجتماعات الصلاة؛ وأمام الحشد الذي كان يطوِّقه كان يضم راحتي يديه مسلِّماً، جرياً على التقليد. عندئذٍ قام هندوسي في الخامسة والثلاثين يدعى ناتورام غودسي، صحافي سابق في صحيفة أسبوعية هندوسية متطرفة في بونا، استطاع أن يشقَّ لنفسه بمنكبيه طريقاً بين الحشد، بإشهار مسدس وأطلق على المهاتما ثلاث رصاصات قاتلة. تمتم غاندي هاي رام ("يا رب!") وأسلم الروح. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
الجماهير تنتحب وهي تراقب ألسنة اللهب تحيل جثمان المهاتما رماداً. جرت الجنازة على ضفة الغانج.
[rtl]*** [/rtl]
[rtl]
بين المعترضين على حظوظ الانتفاضة اللاعنفية التي وضع غاندي أسسَها من النجاح هناك مَن يختزلها إلى الظروف الاستثنائية التي سمحت بتحقيقها، حجَّتهم في ذلك أن استعمال الديالكتيك الغاندي كان ممكناً نظراً لأن الهند وإنكلترا كانتا تشكلان، سياسياً واقتصادياً، منظومة مغلقة؛ لكنْ مع العولمة التي تفجر المنظومات المغلقة لم يعد بإمكان هذا الديالكتيك أن يفلح. على هؤلاء نجيب بأن العولمة قد تزيد من حظوظ نجاح اللاعنف، من حيث إن تضامن الشعوب، فيما يتعدى الحدود القومية والدينية، من شأنه أن يضغط على استبداد الحكومات وتعسفها. كذلك فإن العولمة – على علاتها – تنطوي برأينا على أمل حقيقي بانتفاضات لاعنفية إيجابية ضد الحروب، والاحتلال، والتطهير العرقي، وعدوان الدول الكبرى، والهوة السحيقة الفاصلة بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب التي هي بأمس الحاجة إلى التنمية. [/rtl]
[rtl]
لقد سار على نهج غاندي مريدون له عديدون في كل أنحاء العالم. ففي الولايات المتحدة ناضل القس مارتن لوثر كنغ الابن – شهيد اللاعنف نظير غاندي – ضد التمييز العنصري؛ قال: "فلأتذكر بأن غاية العمل اللاعنفي هي المصالحة والعدل، وليس النصر." وفي البرازيل طلب رجل الدين دون هلدر كامارا، في جهاده ضد البؤس، من حركة "عمل، عدالة، سلام" التي أسَّسها أن تكون "عنف المسالمين". وفي الهند قام أتشاريا فينوبا بهافي، تلميذ غاندي المباشر، ضد إقطاعية مُلاك الأراضي، بحملة للـ"تبرع بالأرض"، منشئاً في إحدى القرى "لواء سلام" من أجل توعية الجماهير إلى ضرورة التضامن الإرادي الواعي. وفي كاليفورنيا منح س. خافيث عمال الكروم المسحوقين حساً بالكرامة وبيَّن لهم أن بالإمكان أن يناضلوا ضد مضطَّهديهم وينالوا حقوقهم. وفي فلسطين المحتلة حاول مبارك عوض أن يؤسِّس المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، وكان فاعلاً في الانتفاضة الأولى، وزرع بذور حركة لاعنفية نشطة، لكن السلطات الإسرائيلية نفته إلى أمريكا بعد اعتقاله. (هل لنا أن نأمل في ظهور "غاندي" جديد في فلسطين؟...) [/rtl]
[rtl]
يبقى أنه في هذا العالم الذي يتقنَّع فيه العنف كل يوم بوجوه جديدة – تدمير الطبيعة وصيد الأنواع حتى الانقراض، الاستعمال الأرعن للحيوان في التجارب المخبرية، وسائل الإعلام وأفلام العنف، الرياضات "الجماهيرية"، الإدمان المتزايد على المخدرات، تفشي الدعارة المنظَّمة المتعدِّية للجنسيات، ألعاب الفيديو، الإنترنت، الخطر النووي، لعبة الديمقراطية، الإرهاب (الأصولي وغير الأصولي) ومكافحته، بطش القوي مادياً بالضعيف مادياً – من واجب الآخذين باللاعنف نهج حياة، بدون أن يتزحزحوا عن موقفهم الداخلي الأساسي، أن يبتكروا أساليب عمل جديدة، وأن تتفتق عبقرية الحقيقة الكامنة في مذهبهم عن تجلِّيات بكر. [/rtl]
[rtl]
ولا ريب أنه، في حال اقتنعت أقلية رائدة بضرورة اللاعنف المصيرية من أجل نجاة الجنس البشري، لن تستطيع هذه الأقلية أن تشق له درباً في التاريخ، على خطى سقراط والناصري والحلاج وغاندي، إلا بشقِّ النفس وببذل تضحيات جِسام، لا لشيء إلا لأنه لا يفصل جهادَ النفس عن جهاد البشر. فليس عبثاً أنْ قيل في غاندي إنه كان "قديساً بين رجال السياسة، ورجل سياسة بين القديسين". [/rtl]
[rtl]*** *** *** [/rtl]
[rtl]دمشق، في 6 تموز 2002 [/rtl]
المراجع
[rtl]-
أديب مصلح، المهاتما غاندي: السياسي القديس، سلسلة النوابغ 1، منشورات المكتبة البولسية، بيروت 1992. [/rtl]
[rtl]-
جماعي، غاندي: صانع اللاعنف، مركز اللاعنف وحقوق الإنسان، بيروت 1996. [/rtl]
[rtl]-
ندره اليازجي، "العنف واللاعنف"، الأعمال الكاملة، مج 2، ص 157-192، دار الغربال، دمشق 1998. [/rtl]
- Bondurant, Joan V., Conquest of Violence: The Gandhian Philosophy of Conflict (rev. ed. 1965).
- Erikson, Erik H., Gandhi’s Truth: On the Origin of Militant Nonviolence (1969).
- Fisher, Louis, Gandhi: His Life and Message for the World (1954).
- Fisher, Louis, The Life of Mahatma Gandhi (1950).
- Gandhi, M. K., An Autobiography: The Story of My Experiments with Truth (1966).
- Gandhi, M. K., For Pacifists (1949).
- Gandhi, M. K., Lettres à l’Āshram, trad. Jean Herbert (1948).
- Gandhi, M. K., Leur civilisation et notre délivrance (Hind Svarāj) (1957).
- Gandhi, M. K., Satyagraha in South Africa (rev. 2nd ed. 1961).
- Gandhi, M. K., Tous les hommes sont frères (Unesco, 1969).
- Herbert, Jean, Ce que Gandhi a vraiment dit (1969).
- Iyer, R. N., The Moral and Political Thought of Mahatma Gandhi (1973).
- Massignon, Louis, « L’Exemplaire singularité de la vie de Gandhi », in Parole donnée (1962).
- Massignon, Louis, Opera minora, vol. III (1963).
- Nanda, B. R., Mahatma Gandhi: A Biography (1968).
- Radhakrishnan, S., R. R. Diwakar & K. Swaminathan (eds.), Mahatma Gandhi: 100 Years (1968).
- Rothermund, Indira, The Philosophy of Restraint: Mahatma Gandhi’s Strategy and Indian Politics (1963).
[rtl]
ملحوظة: يمكن أيضاً للمهتم أن يحضر رائعة ريتشارد أتنبورو الخالدة غاندي التي أبرزت شخصية غاندي من خلال الفن السابع.[/rtl]