النظام القديم: نشأة وتطور رأسمالية الدولة في مصر
كان واضحا تماما بالنسبة للنظام الناصري منذ اللحظة الأولى أن الدولة ستلعب دورا رئيسيا في الاقتصاد، وخاصة في تنمية البنية التحتية وتمويل المشاريع الكبرى التي لن يستطيع القطاع الخاص القيام بها، ولكن النظام في بداياته كان شديد التشجيع للقطاع الخاص وكان يرى أيضا دورا هاما للاستثمارات الأجنبية.
وكان واضحا أيضا أن عملية التصنيع يجب أن تأخذ الصدارة في أولويات النظام، وأن النموذج الذي يجب أن يتبع هو نموذج إحلال الواردات للسلع الاستهلاكية والدخول في الصناعات الثقيلة وتصنيع وسائل الإنتاج.
وكان واضحا أيضا أن الزراعة هي أهم مصدر اقتصادي في مصر، وأن الاستغلال الأمثل لهذا المصدر يستلزم إصلاحا زراعيا وتدخلا مباشرا للدولة لاستخدام الفائض المستخرج من القطاع الزراعي لخدمة مشروع التصنيع. فلم تكن هذه الأولويات والمفاهيم نتيجة لتوجه أيديولوجي أو اجتماعي محدد لدى الضباط الأحرار ولكنها كانت قد أصبحت منذ الأربعينات بديهية لأي نظام في البلدان حديثة التحرر. فقد كانت الطريق الوحيد لحل أزمة التراكم الرأسمالي ودفعه للأمام.
ولم تكن هذه المفاهيم جديدة في مصر، فقد كانت سياسة إحلال الواردات متبعة منذ الثلاثينات، ففي تقرير بنك مصر في 1929، طرح مشروع خطة عشرية للتنمية الصناعية من خلال إحلال الواردات والمشاركة في هذا المشروع بين القطاع العام والخاص في تنفيذ الخطة وإنشاء بنك عام للتنمية الصناعية (2)، ومع النصف الثاني من الأربعينات كانت سياسة التصنيع محل الواردات قد أصبحت جزءا أساسيا من السياسة الاقتصادية. وقد وصل معدل نمو القطاع الصناعي في الفترة بين 1946 و1951 إلى أكثر من 10% سنويا، وفي عام 1949 أنشأت الدولة البنك الصناعي لتقديم الائتمان لقطاع الصناعة (3). إذن فالتوجه نحو دور أكبر للدولة ونحو سياسة إحلال الواردات لم يكن جديدا، فضرورات التراكم الرأسمالي كانت تدفع الاقتصاد المصري في ذلك الاتجاه.
ومن المهم أيضا ملاحظة أن نظام الضباط الأحرار لم يكن في البداية معاديا لرأس المال الأجنبي، بل كان في بداياته أكثر تشجيعا لرأس المال الأجنبي من حكومات الأربعينات. ففي 1953 مثلا صدر قانون جديد للتعدين والمناجم يراجع القانون السابق لعام 1947 ويسمح لرأس المال الأجنبي للدخول في التنقيب عن البترول، وفي عام 1954 صدر قانون 26 لتسهيل شروط الاستثمار الأجنبي، وسمح القانون بحرية خروج الأرباح إلى الخارج وسمح بأن يكون نصيب رأس المال الأجنبي من رأس مال الشركات 51% بدلا من 49% المسموح بها في القانون السابق (1947) (4).
وكان النظام شديد الحماس في بدايته لمشاركة القطاع الخاص، فأصدر قانون 430 لسنة 1953، وقانون 25 لسنة 1954، الذين مدا من الإجازة الضريبية إلى 7 سنوات للمشاريع الصناعية الجديدة، و 5 سنوات للمشاريع القائمة التي تحقق توسعا في رأس المال (5).
ولكن ضعف القطاع الخاص من جانب، وامتناع الاستثمارات الأجنبية من التدفق إلى مصر من جانب آخر دفعا النظام الجديد كغيره من أنظمة دول العالم الثالث حديثة الاستقلال ودول أوروبا الشرقية نحو دور متنام للدولة كمستثمر رئيسي، ونحو محاولة التنمية الصناعية السريعة، من خلال سياسة إحلال الواردات وحماية السوق المحلي من منتجات السوق العالمي. لقد كانت الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف الستينات فترة رأسمالية الدولة على المستوى العالمي، حيث كان التنافس الأساسي هو التنافس بين كتل قومية من رأس المال، وحيث كانت أسوار الحماية الجمركية تعني أن السبيل الوحيد نحو التراكم الرأسمالي هو من خلال محاولة الاستقلال عن السوق العالمي والتحرك عبر مراحل متتالية نحو خلق اقتصاد رأسمالي صناعي متكامل وكانت أول مشكلة تواجه نظام عبد الناصر هي مشكلة التمويل، وكان المصدر المنطقي الذي توجه له النظام الجديد هو الريف.
1. حدود وطبيعة الإصلاح الزراعي
كانت الدولة في حاجة شديدة لاستخراج فائض كبير من الزراعة حتى تستطيع تمويل مشاريعها الصناعية . وكان ذلك يستلزم إصلاحا زراعيا يتم من خلاله مصادرة أطيان كبار الملاك وإعادة توزيعها على الفلاحين وخلق علاقة جديدة بين الدولة والفلاحين، تسمح بزيادة وتطوير الإنتاج الزراعي من جانب، ونهب الفائض لصالح ميزانية الدولة من الجانب الآخر.
قبل إصدار قانون الإصلاح الزراعي كان هناك ألف مالك، يملكون 19.7% من المساحة الكلية، أي حوالي 1.177.000 فدان، ومن الناحية الأخرى نجد أن ما يزيد عن مليوني شخص كانوا يملكون فيما بينهم 778 ألف فدان أو 13% من المساحة الكلية. وفي عام 1950 أظهر التعداد الزراعي وجود 1.003.000 وحدة زراعية و 2.707.000 حيازة، وكان حوالي 31% من المساحة المملوكة مؤجرة مقابل إيجار محدد يدفع نقدا أو عينا أو بموجب نظام المشاركة (6).
ولقد تمت عملية إعادة توزيع الأرض على ثلاث مراحل، الأولى في 1952، وتم بموجبها وضع الحد الأقصى للملكية عند 200 فدان، ثم الثانية في 1961 أصبح الحد الأقصى 100 فدان للفرد، ثم 50 فدان عام 1969. وبحلول عام 1971 كان قد تم توزيع 822 ألف فدان وبلغ عدد المنتفعين من الإصلاح الزراعي 342 ألف عائلة بمتوسط مقداره 2.39 فدان لكل عائلة. وقد تم أيضا توزيع 184 ألف فدان من الأملاك العامة والأراضي البور المطلة على النيل في الفترة بين 1960 و 1967(7).
ويبدو للوهلة الأولى عندما ننظر لهذه الأرقام أن الإصلاح الزراعي كان ناجحا في إعادة توزيع الأرض على الفلاحين، ولكن بعض التدقيق يوضح سريعا حدود الإصلاح الزراعي في مصر، وأن المستفيد الأساسي من هذا الإصلاح لم يكن الفلاحين الفقراء، ولكن البرجوازية الريفية والدولة. فقد ظل عدد الملكيات المتوسطة المساحة ثابتا تقريبا بين 1952 و 1965، ولكن إجمالي مساحتها ارتفع على نحو طفيف إذ كان هناك 148 ألف مالك في حوزتهم 1.818.000 فدان في 1952، بينما بلغ عدد الملاك 148 ألف في حوزتهم 1.956.000 فدان في 1965 (. إن سمة هيكل الأراضي هذه ترجع إلى عام 1920 ولم تتأثر بالإصلاح الزراعي. ولم يحتفظ ملاك المساحات المتوسطة من الأراضي الزراعية فقط بنصيبهم من الأرض، بل اكتسبوا نفوذا اجتماعيا وسياسيا في مناطق ومجالات كان يسيطر عليها من قبل كبار ملاك الأراضي. وفي حين اختفت تماما المزارع الشاسعة الاتساع، والتي كانت تمثل 19.7% من الأراضي عام 1952، لم تتأثر سلبا المزارع المتوسطة (تضاءلت نسبتها فقط من 14% إلى 12.6% بين عامي 1952 و 1969). وقد نجا من الإصلاح ذلك الهيكل الثنائي للنظام الزراعي، حيث توجد من ناحية المزارع الرأسمالية الكبيرة نسبيا (20 إلى 50 فدان) بينما توجد المزارع العائلية الصغيرة من ناحية أخرى. غير أن الأحجام النسبية لملكيات الأراضي لكل من المجموعتين قد تغيرت (9).
لم يكن الإصلاح الزراعي يستهدف إشباع التعطش لملكية الأراضي من جانب الفلاحين الفقراء والمعدمين. فلو كان قد تم نزع ملكية جميع الأراضي المزروعة ووزعت من جديد على الـ 2.1 مليون عائلة فلاحيه في عام 1952، لحصلت كل عائلة على فدانين (10). إن حقيقة الإصلاح الزراعي لم تتعدى كونه سلسلة من الإصلاحات أثرت فقط على 16% من الأراضي الزراعية وتم توزيع 13% من هذه الأراضي على حوالي 10% من العائلات الفلاحية (11).
ولعل الجانب الأهم من الإصلاح الزراعي لم يكن في عملية توزيع الأرض المحدودة، ولكن في تدخل الدولة وسيطرتها الكاملة على عملية الإنتاج الزراعي. لقد احتكرت الدولة كل مستلزمات الإنتاج الزراعي من بذور وسماد وميكنة، كما احتكرت عملية تسويق المحاصيل بشكل كامل. وقد تم إنشاء الجمعيات التعاونية كأداة لسيطرة الدولة على الزراعة، وكان دورها يتلخص في تنظيم الإنتاج ومراقبته، وتسويق المحاصيل. وأصبحت عضوية التعاونيات إجبارية للمنتفعين ومستأجري أراضي الإصلاح الزراعي، وتدار بواسطة مجلس إدارة يخضع لتوجيه مسئول تعينه الهيئة، ويعمل عدد من الموظفين يتمتعون بسلطات كبيرة. كما تم إنشاء هيكل هرمي تجمعت في ظله الجمعيات التعاونية، وخضعت هذه الاتحادات الزراعية بدورها للجمعية التعاونية العامة، وكانت السلطة والرقابة النهائية في يد وزارة الإصلاح الزراعي في القاهرة.
احتكرت الجمعيات التعاونية تقديم القروض والأسمدة والبذور والمشورة الفنية، وكانت أداة لإجبار الفلاحين على توحيد المحاصيل وإتباع الدورة الزراعية الثلاثية. وبحلول عام 1962، وكانت الجمعيات التعاونية هي المسئولة عن توجيه جميع القروض في الريف، وقد ارتفعت قيمة المدخلات الإجمالية التي تقدمها الجمعيات التعاونية بصورة كبيرة خلال الستينات، وتمتعت الحكومة باحتكار تقديم الأسمدة والبذور والمبيدات الحشرية. وكان الجمعيات هي الأداة الوسيطة التي تمد الفلاحين بهذه المستلزمات.
أصبحت الجمعيات التعاونية وسيلة نهب الفائض الزراعي من قبل الدولة. ويعتبر التسويق الإجباري للمحاصيل الرئيسية التي تشتريها الحكومة بأسعار منخفضة نسبيا، وبيع المدخلات بأسعار مرتفعة وسيلة فعالة لفرض ضرائب شديدة وإجبارية على الفلاحين. ومثال على هذا هو بيع الأسمدة بسعر 25 جنيه للطن في أوائل الستينات حينما كان سعر استيراده ما بين 15 إلى 16 جنيها للطن، وبالمثل كان القطن يتم شراؤه من الفلاحين عام 1970 بسعر 14.5 جنيه للقنطار ثم يتم تصديره بعد ذلك بسعر 20.5 جنيه للقنطار. كان الفرق بين أثمان شراء المحاصيل في الداخل وأثمان بيعها في الخارج من جانب الدولة يساوي 60 مليون جنيه مصري في عام 1960، وهو ما يشكل 20% من الميزانية العامة للدولة، وقد وصلت التحويلات الصناعية من الزراعة 5.5 مليار جنيه في عام 1975، وهو ما يشكل 30% من الميزانية لذلك العام (12).
2. أزمة رأسمالية الدولة
كان الهدف من نهب الفلاحين هو تحويل الفائض الزراعي نحو التراكم الرأسمالي في الصناعة، ومع نهاية الخمسينات كان قد أصبح واضحا أن القطاع الخاص والرأسمالية الأجنبية لن يلعبا أي دور فعال في عملية التراكم، وكان الإصلاح الزراعي قد قضى على قطاع من البرجوازية الكبيرة، وأدى تأميم القناة وتأميم البنوك والشركات الأجنبية إلى هروب ما تبقى من رأس المال الخاص خارج البلاد. وفي يوليو 1961 قامت الدولة بسلسلة تأميمات واسعة بإصدار قوانين 117 و118 و119 والتي تم من خلالها تحويل الجزء الأكبر من الاقتصاد غير الزراعي إلى القطاع العام. أدى قانون 117 إلى تأميم البنوك الخاصة وشركات التأمين و50 شركة ملاحية والصناعات الثقيلة والأساسية، وأدى قانون 118 إلى إجبار 83 شركة لبيع 50% من أسهمها للقطاع العام، وأدى قانون 119 إلى مصادرة الأسهم الرئيسية و 147 شركة متوسطة الحجم (13).
ووضعت الخطة الخمسية الأولى في عام 1960/1961 كخطة تصنيع تستهدف الدولة من خلالها تركيز كل الاستثمارات على عملية التصنيع وعلى بناء السد العالي لزيادة الإنتاج الزراعي وكمصدر أساسي للطاقة الصناعية. كانت الاستثمارات المطروحة في الخطة في 1961 تبلغ حوالي 5 مليارات، 1.6 مليار منها من خلال القروض الخارجية أساسا من الاتحاد السوفيتي، و 496 مليون دولار للمشاريع الصناعية ، و325 مليون دولار للسد العالي، و 300 مليون دولار قروض من الولايات المتحدة تحت مشروع الغذاء للسلام، و840 مليون جنيه قروض من بلدان أخرى (14). هذا إلى جانب رأس المال المؤمم الذي توفر للدولة وحصيلة نهب الفلاحين.
كانت الصناعة تمثل بين 25 و 28% من إجمالي الاستثمارات في الخطة الخمسية، وزاد نصيب الصناعة من إجمالي الناتج المحلي من حوالي 16% عام 1956 إلى 24% عام 1964 (15). وكانت فلسفة الخطة هي التصنيع السريع وإحلال الواردات للبدء في خلق أرضية متكاملة للتنمية المستقلة وتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية. وهي خطة اعتمدت على تجارب الاتحاد السوفييتي والصين والهند ودول أمريكا اللاتينية في خلق اقتصاد مستقل وسوق محلية متسعة تستوعب الإنتاج الصناعي وقطاع زراعي يتم زيادة إنتاجه واستخراج الفائض منه لخدمة أهداف الصناعة.
ولكن واقع تنفيذ الخطة كان بعيدا كل البعد عن الأهداف المرجوة، وبدلا من أن تكون الخطة الأولى في طريق سلسلة من الخطط الخمسية تحقق نموا اقتصاديا يخرج البلاد من تخلفها، سرعان ما انهارت التجربة وتأزمت وتحولت إلى أحد أشد التجارب فشلا في بناء رأسمالية الدولة. فقد كان المخطط أن تنخفض قيمة الواردات خلال سنوات الخطة من 229 مليون جنيه إلى 215 مليون جنيه (بأسعار 1964)، ولكن ما حدث في الواقع أن قيمة الواردات زادت لتصل إلى 413 مليون جنيه عام 1965، ووصل العجز في الميزان التجاري إلى 166 مليون جنيه، وزادت نسبة قيمة الواردات من إجمالي الناتج المحلي من 15% في بداية الخطة إلى 20% في نهايتها (16).
وأدى التضاؤل المستمر في إجمالي المدخرات المحلية كمصدر للتمويل إلى عجز في الاستثمارات وصل إلى 417 مليون جنيه في 1962 (17)، وكان الحل الوحيد لسد هذا العجز هو المزيد من القروض الأجنبية. وظهرت أول أزمة في ميزان المدفوعات في 1962، ثم أزمة أعنف في 1965. ساعد على تفاقم الأزمة خلال الخطة الخمسية كارثة محصول القطن في 1962 والتي أدت إلى انخفاض حاد في إيرادات العملة الأجنبية من 121 مليون جنيه في 60-1961 إلى 75 مليون جنيه في 61-1962. واضطرت الحكومة أيضا إلى دفع 25 مليون جنيه تعويضات لبريطانيا عن الممتلكات المؤممة و27,5 مليون جنيه تعويضات لمالكي أسهم شركة قناة السويس. وقد زاد أيضا نصيب ميزانية الدفاع من إجمالي الناتج المحلي بين 1963 و1965 من 8% إلى 12% ووصل إلى 575 مليون جنيه في عام 1965 (18).
وقد وصل العجز في الميزان التجاري إلى 174 مليون جنيه عام 1963، ومن أجل تمويل هذا العجز انخفضت أرصدة العملة الأجنبية لدى الحكومة من 109 مليون جنيه في بداية الخطة إلى 7 مليون جنيه فقط في عام 1962. وفي مايو 1962 توصلت الحكومة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي واستلمت قرضا بلغ 20 مليون جنيه واضطرت لخفض قيمة الجنيه من 35.2 قرش للدولار إلى 43.5 قرش للدولار (19).
في 1964 ازدادت الأزمة عمقا حيث بدأت الحكومة في تمويل عجز الميزانية بالسحب على المكشوف. وفي 1965 ومع توقف الولايات المتحدة عن توريد القمح لمصر انخفضت كميات القمح المستوردة مما خلق تضخما عاما في السلع الغذائية وصل إلى 11.5%. كانت قيمة الواردات من القمح في 65-1966 تعادل 55 مليون جنيه، في حين كانت القيمة الكلية لصادرات مصر إلى الغرب تعادل 52 مليون جنيه. وفي صيف 1966 تمت مفاوضات جديدة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي وتم الاتفاق على برنامج يتضمن تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 40% وتخفيض حاد في الاستثمارات وزيادة في الأسعار والضرائب. ولم تنفذ الحكومة إلا التخفيض في حجم الاستثمارات وإتباع سياسة تقشفية فانخفضت ميزانية الاستثمار من 383 مليون جنيه عام 1966 إلى 365 مليون جنيه عام 1967، وتم تخفيض الواردات من 465 مليون جنيه في 1966 إلى 344 مليون جنيه في 1967، وكان النمو الاقتصادي قد توقف تماما(20).
كان من البديهي أن الذي سيدفع ثمن هذه الأزمة الحادة هو الطبقة العاملة المصرية وفقراء الفلاحين. وقد ألقى جمال عبد الناصر خطابا في مارس 1967 أمام رؤساء الهيئات في القطاع العام قال فيه: "إن الإدارة علم لا تتغير قواعده بين الاشتراكية والرأسمالية. الفرق الوحيد بين النظامين هو في ملكية وسائل الإنتاج، ولابد أن ترتبط الأجور بالإنتاجية، فالاشتراكية لا تعني تساوي الأجور ولكن تساوي فرص العمل. ودور الاتحاد الاشتراكي في شركات القطاع العام يقتصر على المساندة في تنفيذ الخطة وتهدئة العلاقات بين العمال والإدارة." (21)
وإذا ترجمنا هذا الخطاب إلى اللغة الماركسية فنجده يقول أن حل الأزمة سيأتي من خلال تكثيف استغلال العمال، وعلى الاتحاد الاشتراكي استيعاب الغضب الذي سينتج عن هذا التكثيف!
ولم يكن موقف الاتحاد السوفيتي "صديق الشعوب" مختلفا عن موقف أي دائن رأسمالي، فكانت نصائح الحكومة السوفيتية وشروطها لمد قروض جديدة لا تختلف عن نصائح صندوق النقد الدولي من ضرورة سياسات تقشفية. وفي مايو 1966 رفض الاتحاد السوفيتي تأجيل دفع الحكومة المصرية لأقساط ديونها للاتحاد السوفيتي، وكانت الحجة أن مثل هذا التأجيل سيعطي إشارات خطيرة للدول الأخرى المدينة للسوفيت.
إن الطابع المأزوم للاقتصاد المصري خلال الستينات لم يعني أن الاقتصاد لم ينمو. ففي سنوات الخطة كان النمو في إجمالي الناتج المحلي يزيد عن 6%، وأضيف أكثر من 500 ألف عامل صناعي للطبقة العاملة المصرية. ولكن هذا النمو قد تم تمويله أساسا من خلال القروض وظلت الموارد التي اعتمدت عليها الدولة أقل حجما من المشاريع التي كانت تريد تنفيذها.
إن تجارب رأسمالية الدولة التي نجحت اعتمدت على مصدرين أساسيين لتمويل عملية التصنيع. ففي كوريا الجنوبية، اعتمدت التجربة على نمو سريع في التصدير للسوق العالمي، وفي البرازيل اعتمدت التجربة على خلق سوق محلي كبير ومضاعفة المدخرات المحلية. ولكن في مصر ظل التصدير محدودا للغاية، في حين لم تستطع الدولة خلق سوق محلي، وكانت النتيجة هي الاعتماد على القروض واستنزاف الريف، وظلت هذه المصادر شديدة المحدودية وغير كافية لتمويل مشاريع التصنيع.
إن الفشل في التصدير والفشل في مضاعفة المدخرات المحلية أديا إلى انهيار تجربة رأسمالية الدولة في الستينات. وقد جاءت حرب 1967 لتعطي التجربة الضربة القاضية. ولم يستطع النظام البدء في خطة خمسية ثانية، وظل حتى بداية السبعينات غير قادر إلا على البقاء من شهر لشهر، ومحاولة إعادة جدولة الديون وإعادة بناء الجيش بعد كارثة 1967. ولعل أكبر دليل على أن الفقراء من عمال وفلاحين هم الذين دفعوا ثمن فشل النظام هو إحصائيات استهلاك القمح. ففي 1966 كان استهلاك الفرد من القمح 115 كيلو جرام سنويا، وفي 1970 كان هذا الاستهلاك قد انخفض إلى 72 كيلو جرام سنويا!.
3. السبعينات والثمانينات وتفاقم أزمة رأسمالية الدولة
يتصور الكثيرون أن ما حدث في السبعينات كان تفكيكا لنظام رأسمالية الدولة، وتراجعا للدولة عن التدخل في الاقتصاد، وأن الانفتاح كان تحولا جذريا في السياسات الاقتصادية للنظام. ولكن واقع تطورات السبعينات يدحض هذه التصورات تماما. فقد ظل القطاع العام كما هو ولم تقلل الدولة من سيطرتها على الصناعة، وظل الوضع في الريف كما هو تحت سيطرة ونهب من قبل الدولة، وحتى نظام البنوك، والتي شهدت أكبر تغيير في السبعينات من خلال السماح لإنشاء بنوك القطاع الخاص، حتى في هذا المجال ظلت الدولة في الصدارة. فبعد خمس سنوات من تطبيق قانون 43 لعام 1974 المعروف بقانون الانفتاح كانت بنوك القطاع العام لا تزال في الصدارة فقد كانت في 1979 تستحوذ على 81% من إجمالي الودائع و83% من إجمالي الائتمان(22).
لقد كانت قوانين الانفتاح مجرد محاولة من النظام لإنقاذ نفسه من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية، وخاصة العربية بعد صعود أسعار البترول في 1973، حتى تحل أزمة تمويل الاستثمارات التي كانت الدولة تعاني منها منذ منتصف الستينات. ولكن هذه المحاولة فشلت في مجملها، فظلت الاستثمارات الأجنبية محدودة للغاية، وظلت الأزمة في بنية النظام كما هي. إن الذي أنقذ النظام من الناحية الاقتصادية لم يكن سياسات الانفتاح، ولكن تدفق القروض الغربية بسبب سياسات السلام مع إسرائيل والتحالف مع أمريكا من جانب، وارتفاع أسعار البترول من الجانب الآخر.
لعب تدفق القروض والمساعدات الأمريكية والغربية دورا أساسيا في إنقاذ النظام من الغرق في السبعينات وبداية الثمانينات. ففي 1970 كانت ديون مصر قد وصلت إلى 1.3 مليار دولار أو ما يمثل 18% من إجمالي الناتج المحلي، وقفزت هذه الديون إلى 13 مليار دولار عام 1977 بنسبة 95% من الناتج المحلي، ثم إلى 20.4 مليار دولار عام 1980 بنسبة 128% من إجمالي الناتج المحلي، ثم إلى 42.2 مليار دولار في 1985، أي ما يعادل 159% من إجمالي الناتج المحلي(23).
ولكن القروض لم تكن الحل الوحيد، بل مثلت عبئا ثقيلا كلما زادت خدمة هذه الديون ذات الفائدة المرتفعة. وكانت مصادر النظام لخدمة هذه الديون والبقاء فوق سطح الماء هو تصدير البترول وعائدات قناة السويس وتحويلات العاملين بالخليج. وهذه المصادر الثلاث قد أوجدتها الزيادة الكبيرة في أسعار البترول بعد 1973. وقد أصبح تصدير البترول مثلا يمثل 66% من إجمالي صادرات مصر في 1979، وأصبحت تحويلات عمال الخليج ورسوم قناة السويس تمثل أكثر من 50% من قيمة إجمالي الصادرات المرئية (بما في ذلك صادرات البترول) (24).
وقد ساعدت هذه المصادر الجديدة في استمرار الوضع على ما هو عليه في الصناعة والزراعة، بل إلى تفاقم أزمات هذين القطاعين خاصة قطاع الزراعة. ففي 1974 كان إنتاج القمح قد وصل إلى 1.884.000 طن، في حين وصل استيراد القمح إلى 2.251.000 طن دقيق، وقد وصل الإنتاج في 1978 إلى 1.933.000 طن (زيادة طفيفة جدا) في حين وصل الاستيراد إلى 3.560.000 طن إلى جانب 837.000 طن دقيق (25).
وإذا نظرنا إلى مسألة القمح بشكل تاريخي سنجد أنه في الفترة بين 1950 إلى 1980 زاد إنتاج القمح بنسبة 71% فقط، في حين زاد استيراد القمح بنسبة 612% (26).
وقد انخفض نصيب الزراعة من إجمالي الناتج المحلي من 33% عام 1970 إلى 24% عام 1980، ولم يحل محل هذا الانخفاض نموا في الصناعة، بل أخذت محلها قطاعات الخدمات والتجارة والتمويل والتي أصبحت تمثل 30% من إجمالي الناتج المحلي عام1980. (27)
في 1965 كان نصيب الصناعة من إجمالي الناتج المحلي 24%، وانخفض هذا النصيب (إذا استثنينا البترول) إلى 14% في عام 1979. كما انخفضت نسبة الصادرات الزراعية من إجمالي الصادرات من 88% عام 1953، إلى 32% في عام 1978. ولكن لم يحل محلها الصادرات الصناعية، بل حل محلها البترول. وفي نفس الوقت ارتفعت قيمة الواردات من 213 مليون جنيه في عام 1952، إلى 6.9 مليار جنيه في عام 1980، وزادت نسبة العجز في الميزان التجاري من إجمالي الناتج المحلي من 1% في بداية الخمسينات، إلى 6% في نهاية الخطة الخمسية (1966) وإلى 37% في عام 1975، وهو ما يوضح مدى فشل سياسة إحلال الواردات. كما انخفضت نسبة الاستثمار الصناعي بالنسبة لإجمالي الاستثمار القومي من 29.3% في عام 1970-1971 إلى 21.4% في عام 79-1980، وانخفضت نسبة الصادرات الصناعية بشكل حاد من 47% من إجمالي الصادرات في 1970 إلى 14.6% في عام 1979. (28)
وكما نرى فإن الانتعاش الذي شهده الاقتصاد المصري في النصف الثاني من السبعينات، والسنوات الأولى من الثمانينات كان يخفي وراءه تفاقم في الأزمة البنيوية للاقتصاد المصري، وكان نتيجة فقط لارتفاع أسعار البترول وإيرادات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخليج، وهي كلها مصادر خارجية، في حين ظلت الصناعة والزراعة، أي القطاعات المنتجة، في أزمة تزداد عمقاً وتفاقماً.
وقد ظل نظام رأسمالية الدولة قائما ومأزوما حتى نهاية الثمانينات، وحتى لو كانت سياسات الانفتاح تهدف في بداياتها في 1974 إلى البدء في تفكيك ذلك النظام والتحول إلى سياسات السوق الحرة، فقد أدت مظاهرات 1977 ضد بداية رفع الدعم عن السلع الغذائية من جانب، ووجود إيرادات خارجية متزايدة من الجانب الآخر إلى تأجيل البدء في تفكيك نظام رأسمالية الدولة.
تفاقمت الأزمة الاقتصادية من كل الجوانب مع منتصف الثمانينات، فالمديونية الخارجية ازدادت بشكل غير مسبوق، وأصبحت خدمة الديون الخارجية عبئاً ضخما على الميزانية، وانخفض بشكل حاد سعر البترول، وانخفضت معه إيرادات قناة السويس وتصدير البترول وتحويلات المصريين العاملين في الخليج، وتفاقمت أزمة القطاع العام الصناعي، وتدهور الإنتاج الزراعي، وازداد العجز في الميزان التجاري للسلع الزراعية. ومع منتصف الثمانينات وصل العجز في ميزان المدفوعات إلى 24% من إجمالي الناتج المحلي، وارتفعت معدلات التضخم لتصل إلى 25% سنويا، كما ارتفعت نسبة الديون الخارجية إلى الناتج القومي الإجمالي إلى ما يقارب 200% مع نهاية الثمانينات. وفي 1987 كانت نسبة الديون الخارجية إلى الصادرات 343%، وارتفعت نسبة خدمة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي من حوالي 4% في عام 1970 إلى 85% عام 1987. (29)
وتفاقمت الأزمة في القطاع العام الصناعي، فقد كان يحتاج هذا القطاع إلى أكثر من مليار دولار سنويا لشراء الواردات من مستلزمات الإنتاج، في حين كان إجمالي قيمة الصادرات لهذا القطاع أقل من 500 مليون دولار سنويا. ومولت بنوك القطاع العام 300 مليون دولار من العجز، أما الباقي فكانت الشركات الصناعية تحصله من خلال بيع منتجاتها محليا بالدولار. وقد سحبت المؤسسات الصناعية العامة نحو 2 مليار جنيه على المكشوف في عام 86-1987 بزيادة قدرها 50 مليون جنيه عن العام السابق، ووصل إجمالي واردات القطاع العام لذلك العام إلى 1.3 مليار دولار في حين كانت صادراته 671 مليون دولار. (30)
وفي عام 1986 قدمت الحكومة 293 مليون جنيه إعانات مباشرة للقطاع العام الصناعي، في حين كانت قيمة تلك الإعانات أقل من 1 مليون جنيه عام 1971. وكان عدد شركات القطاع العام الخاسرة قد زاد من 4 شركات في 1974 إلى 60 شركة في عام 1987، وفي عام 1988 كانت هناك 78 شركة خاسرة من إجمالي 116 شركة قطاع عام. كان إجمالي أرباح الشركات الناجحة 355 مليون جنيه في حين كان إجمالي خسائر الشركات الفاشلة 581 مليون جنيه في نفس العام.(31)
وأصبح واضحا آنذاك للنظام المصري أنه لم يعد لديه إمكانية لتأجيل إصلاح النظام، فلم يعد هناك إمكانية للاستمرار في التراكم الرأسمالي بالنمط القديم، وأصبح الحل الوحيد هو القفز نحو السوق. إن التحول نحو السوق لم يكن اختيارا أيديولوجيا أو مؤامرة سواء من البرجوازية المحلية أو من البرجوازية العالمية. فالمؤسسات المالية العالمية تريد استرداد أموالها، وتطرح سياسات الإصلاح كوسيلة وحيدة للوصول إلى ذلك الهدف، والنظام المصري يريد حل أزمة التراكم، وكلاهما يريد أن يحدث التحول على حساب الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين.
كانت نتيجة الأزمات المتتالية لنظام رأسمالية الدولة هو مزيج من الضغوط الخارجية العنيفة من جانب، وضغوط البرجوازية المحلية من الجانب الآخر لإعادة هيكلة الاقتصاد. وأخذت هذه الضغوط شكل سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأيضا السياسات الخارجية للدول الرأسمالية الكبرى. وكانت النتيجة هي إتباع النظام في مصر مثله مثل عدد كبير من الدول الأضعف لسياسات تقشفية وإعادة هيكلة.