منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولصفحتنا عبر الفيسبوكمركز تحميل لكل الإمتدادات
منتدى قالمة للعلوم السياسية يرحب بكم
تنبيه:إن القائمين على المنتدى لا يتحملون أي مسؤولية عن ما ينشره الأعضاء،وعليه كل من يلاحظ مخالفات للقانون أو الآداب العامة أن يبلغ المشرف العام للمنتدى ، أو بتبليغ ضمن قسم اقتراحات وانشغالات
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2024م
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الثلاثاء يناير 16, 2024 8:08 pm

» عام ينقضي واستمرارية في المنتدى
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 السبت مايو 27, 2023 1:33 pm

» الإقرار وفق القانون الجزائري
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الخميس مايو 11, 2023 12:00 pm

» امتحان تاريخ العلاقات الدولية جانفي 2023
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الجمعة يناير 20, 2023 10:10 pm

» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2023
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء يناير 11, 2023 9:15 pm

» كتاب : المؤسسات السياسية والقانون الدستورى
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف ammar64 الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 10:47 pm

» الفكر السياسي عند الرومان
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الأحد أكتوبر 16, 2022 7:32 am

» الفكر السياسي الاغريقي بعد أفلاطون
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الأحد أكتوبر 16, 2022 7:31 am

» الفكر السياسي الاغريقي
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyمن طرف salim 1979 الأحد أكتوبر 16, 2022 7:29 am

أنت زائر للمنتدى رقم

.: 12465387 :.

يمنع النسخ
أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Ql00p.com-2be8ccbbee

 

 أبو الحسن الماوردي وفكره السياسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 44
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5278
نقاط : 100012160
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Empty
مُساهمةموضوع: أبو الحسن الماوردي وفكره السياسي    أبو الحسن الماوردي  وفكره السياسي  Emptyالإثنين نوفمبر 12, 2012 11:43 am

أبو الحسن الماوردي
وفكره السياسي

الماوردي مفكّر إسلامي، امتاز بعقلية موسوعيّة، تمزج الفكر بالعمل، وتجمع إلى جانب شمول المعرفة، طرافة الأفكار وجدّتها. وهو إلى جانب مكانته المشهود له بها في الفقه والحديث والتفسير والأدب، فإنّه مفكّر سياسي واجتماعي من طراز رفيع، وقد شهد له كثيرون بالأصالة الفكّرية والاجتهاد في هذه الميادين مجتمعة.

ولا أدلّ على هذا من أنّ عدداً من مؤلفاته، وخاصّة السيّاسيّة منها، مثل "الأحكام السلطانيّة"، و"قوانين الوزارة"، وكتاب "نصيحة الملوك" قد جرت ترجمتها منذ مدّة، إلى عديد من لغات العالم الإنكليزية والألمانيّة والروسيّة والفرنسيّة. وتشغل النظريّة السيّاسيّة الإسلاميّة، كما عالجها الماوردي في مؤلفاته العديدة حيّزاً كبيراً من صفحات الدوريّات والمجلاّت العالمية المعروفة. وذلك من خلال مئات الدراسات والأبحاث العلميّة لكبار المستشرقين، الذين عكفوا على تحليل مؤلّفات الماوردي السياسيّة، ودراسة أفكارها ومرتكزاتها الأساسيّة بصورة نقدية مقارنة شاملة. الأمر الذي يدحض ما ذهب إليه بعض كتّابنا المتغربين و"أساتذتهم" من أعداء العرب والحضارة الإسلاميّة من الزعم بأنّ الفكر السياسي الإسلامي (كأصول ونظريات وممارسات عمليّة) مقتبسٌ من الإغريق والرومان والفُرس. إنّ النظرية السيّاسيّة الإسلاميّة وصيغة نظام الحكم في الإسلام فريدة، مختلفة عمّا سواها من نظريات وأنظمة، لاختلاف المصدر والمبادئ والشمولية والظروف، لذا يصعب إدراج هذه الصيغة وتلك المنطلقات النظريّة ضمن أشكال النظم التي عرفتها أوروبا (اليونان وبيزنطة) أو الحضارات الأخرى (كالحضارة الفارسيّة)، بسبب ارتباط هذه الأشكال بمجمل التطوّرات الفكريّة والسيّاسيّة والاجتماعيّة لهذه المنطقة أو تلك. وانطلاقاً من اختلاف العوامل الموضوعية والذاتيّة فقد تميّزت الدراسات السيّاسيّة الإسلاميّة بتركيزها على مسألة "الشورى" والمسؤولية الفرديّة، والمساواة بين الناس، والتضامن الكامل بين أفراد الجماعة، مع تركيز خاص على ارتباط السياسة بالدين والأخلاق.
ولكنْ من هو الماوردي؟ وما ملامح العصر الذي عاش فيه؟!. وما هي أبرز سمات فكره السياسي، ومكوّنات نظرّيته السيّاسيّة بشأن الحكم والإدارة والمسؤولية؟!

أوّلاً معالم حياة الماوردي وطبيعة عصره
الماوردي هو أبو الحسن علي بن محمّد بن حبيب البصري البغدادي. عُرف بالماوردي نسبة إلى صناعة ماء الورد وبيعه، الذي اشتهرت به أسرته(1)
ولد الماوردي بالبصرة حوالي سنة 364هجرية (974ميلادية)، واتفقت المصادر على أنه توّفي في شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة للهجرة (1058 للميلاد) عن ستّ وثمانين سنة، ودفن في مقبرة باب حرب ببغداد.
نشأ الماوردي في البصرة، حيث تعلّم وسمع الحديث فيها عن جماعة من العلماء، الذي روى عنهم، وكان من أبرزهم أبو القاسم عبد الواحد بن محمد الصيمري القاضي، المُتوّفى في سنة 386هـ، ثم ارتحل بعد وفاته إلى بغداد، التي كانت مركزاً للعلم والمعرفة في عصره، ودرس على إمامها الكبير أبي حامد الأسفرايني، المتوفّى سنة 406هـ، وصار من أخص تلاميذه(2).
درس اللغة والأدب على الإمام أبي محمد الباقي، المتوفّى سنة 398هـ، وكان من أعلم أهل زمانه بالنحو والأدب، فصيح اللسان، بليغ الكلام، حسن المحاضرة، وقد تأثّر به الماوردي واستفاد منه كثيراً.
إضافة إلى ما تقدّم فقد كان الماوردي من وجوه فقهاء الشافعيّن، مجتهداً في الفقه والأصول والتفسير، بصيراً بالعربيّة وتفرّعاتها. وكان فوق ذلك كلّه من رجال الساسة البارزين في الدولة العّباسيّة وخاصّة في مرحلتها المتأخّرة، هذا إلى جانب إلمامه الجيّد بأصول علم الاجتماع وقواعده ومباحثه.
اشتغل بالتدريس والتصنيف، وتولّى القضاء وتدرّج فيه إلى أن أطلقوا عليه لقب "أقضى القضاة" في 429هـ، وانتهت إليه زعامة الشافعية في عصره. ويقول ياقوت الحموي في صدر ترجمته له: "الماوردي البصري، يُكّنى أبا الحسن، ويُلّقب أقضى القضاة، لقب به في سنة تسع وعشرين وأربعمائة (للهجرة). وجرى من الفقهاء كأبي الطيب الطبري والصيمري إنكار لهذه التسمية، وقالوا: لا يجوز أن يُسمّى به أحد. هذا بعد أن كتبوا خطوطهم بجواز تلقيب "جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة" بـ "ملك الملوك"، فلم يلتفت (الماوردي) إليهم، واستمرّ له هذا اللقب إلى أن مات، ثم تلقّب به القضاة إلى أيّامنا هذه". ثمّ قال: "وشرط الملّقب بهذا اللقب أن يكون دون منزلة من تلّقب بقاضي القُضاة، على سبيل الاصطلاح، وإلاّ فالأولى أن يكون "أقضى القُضاة" أعلى منزلة"(3).
وممّا هو جدير بالذكر أنّ الماوردي امتاز في أحكامه القضائيّة بالمرونة والاجتهاد من ذلك ما يرويه ياقوت من أنّ أقضى القّضاة، الماوردي، سلك طريقةً في ذوي الأرحام، "يورث" القريب والبعيد بالسويّة، وهو مذهب بعض المتقدّمين، فجاءه يوماً الشينيزي، فصعد إليه المسجد، وصلّى ركعتين والتفت إليه وقال له: "أيّها الشيخ اتبع ولا تبتدع، فقال الماوردي بل أجتهد ولا أقلّد"(4) تألّق نجم الماوردي في فترة إقامته ببغداد، حتى اختير سفيراً بين رجالات الدولة في بغداد، وبني بويه من سنة 381-422هـ، وذلك لما عُرِف عنه من غزارة علم، وحسن رأي وجلالة قدر. يقول ياقوت: إنّ ملوك بني بويه كانوا "يرسلونه في التوسّطات بينهم وبين من يناوئهم، ويرتضون بوساطته، ويقفون بتقريراته"(5) وهناك حوادث كثيرة تؤكّد مدى اتصال الماوردي بالحياة السياسيّة في عصره، وعدم انعزاله عنها، وتؤكّد بالتالي أنّ الماوردي لم يكتب مؤلّفاته السيّاسيّة إلاّ عن تجربة عملّية ودراية تامّة وتعمّق كبير في الحياة العامّة ودقائقها، ومشكلات الحكّام والمحكومين والإدارة والسلطة.. الخ. ومن ذلك ما ذكره أبو الفداء في تاريخه(6)، إنّه عندما مات القادر باللّه في سنة 422هـ جلس في الخلافة ابنه القائم بأمر اللّه، فأرسل (القائمُ) أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار فأخذ البيعة عليه للقائم وخطب له بلاده. وكذلك وساطته بين القائم وجلالة الدولة بشأن أمور "الجوالي" وعائديه خراجها وجبايتها.
وبالإضافة إلى سوء معاملة البويهيّين للخلفاء واستئثارهم بالسلطة، فقد شاركوهم في مظاهر سيادتهم الدينيّة والسيّاسيّة، فأصبحت أسماؤهم تُذكر مع اسم الخليفة في الخطبة منذ عهد عضد الدولة، مع إنّ ذلك كان من الأمور التي انفرد بها الخليفة دون غيره، ولم تجر بذلك عادة الأمراء الذين تقدّموه(10).
ما يهّمنا الإشارة إليه هنا هو اتّصاف العصر الذي عاش فيه الماوردي بكثرة الفوضى والاضطراب، حيث كانت أغلب البلدان التي عاش فيها الماوردي واشتغل مسرحاً للفتن والمعارك والمؤامرات من الداخل والخارج، إمّا على خلفيّة دينيّة- مذهبّية، أو على خلفّية قوميّة -شعوبيّة (بين العرب والفُرس والأتراك.. الخ). وإذا ما أراد المرء التوقّف عند تلك الفتن والاضطرابات والأحداث الدامية، فسيطول الأمر ويخرج عن إطار البحث وأهدافه. والغاية من الإشارة إلى هذه الحوادث التدليل على سمة العصر الذي عاش فيه الماوردي، ولعلّ الشيء الغريب حقاً أن تكون تلك الأيام، بالرغم ممّا تميزت به من فوضى واضطرابات وأحداث خطيرة، من العصور الخصبة في ميادين العلم ومجالات الإبداع المتعددة.
والماوردي هذا العالم الجليل، كان صاحب مبادئ وقيم وأخلاق وعدْل، ويتّضح ذلك من موقفه الشجاع عندما طُلب منه الإفتاء بجواز منح جلال الدولة البويهي لقب "ملك الملوك" على الرغم ممّا كان بينهما من أواصر الموّدة. ذلك أنّ جلال الدولة بن بويه سأل الخليفة سنة 429هـ أن يسمح له بأن يزيد في ألقابه لقب "شاهنشاه" أي ملك الملوك الأعظم، وكان أن أجابه الخليفة إلى طلبه، وخطب له بذلك، الأمر الذي أثار اعتراض وتبرز مكانة الماوردي، أيضاً، عند الأمراء والخلفاء، واستشارتهم له في صعاب الأمور واحترامهم لوجهة نظره فيها ما يرويه ابن الجوزي في "المُنتظم"(7) ضمن أحداث سنة 427هجرية، حيث يقول: "إنّ الجند عندما شغبوا على جلال الدولة وقالوا إنّ البلد لا يحتملنا وإيّاك فاخرج من بيننا فإنه أولى لك فقال كيف يمكنني الخروج على هذه الصورة، امهلوني ثلاثة أيام حتى آخذ حرمي وولدي وأمضي، وقالوا لا نفعل.. وكان المرتضى والزينبي والماوردي عند الملك فاستشارهم إلى آخر الرواية" وهي أحداث تكتشف دور الماوردي عندئذ بوصفه مستشاراً للبويهيّين من جهة، وتظهر طبيعة الأوضاع التي عاش فيها أهل بغداد، حيث كثرت إساءة معاملة البويهيّين للخلفاء، واضطراب الأحوال الداخلية، وازدياد نفوذ الأتراك من جهة أخرى.
وعندما اشتدّ الصراع بين جلال الدولة وأبي كاليجار على مدن الأحواز وواسط والبصرة، نشبت حروب طاحنة مدمّرة بين قوات كل منهما، فقدت فيها أنفس وأموال كثيرة وعمّ الخراب هذه المناطق، عند ذلك رأى الخليفة القائم بأمر اللّه (سنة 428هـ) أن يضع حدّاً لتلك الحروب الهائلة بينهما (أي بين جلال الدولة وأبي كاليجار)، فأرسل مجموعة رسل بين الطرفين المتحاربين، وكان "أقضى القضاة" أبو الحسن الماوردي على رأس الوفد المفاوض الذي بعث به الخليفة إلى أبي كاليجار، وقد تكلّلت هذه الوساطات بالنجاح، وتم عقد الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار في عام 429هجرية.
وكان للماوردي مكان الصدارة في أغلب المراسم والاحتفالات الرسمية، وعلى سبيل المثال تصدّره لاحتفال عقد قران الخليفة القائم بأمر اللّه على خديجة بنت أخ السلطان طغرل بك سنة 448هـ(Cool. وعلى الرغم من مكانة الماوردي الممتازة عند الأمراء والملوك في عصره، فقد اشتهر بالحلم والوقار والأدب والتعفّف والتواضع، كما اشتهر بالتدين والورع والبُعد عن الشبهات.
وجدير بالذكر أنّ الدولة البويهيّة لم تكن تُدار من خلال دولة أو سلطة مركزية برأس واحد، بل اقتسم أعضاء الأسرة (البويهيّة) البلاد فيما بينهم، وكان التفوّق السياسي ينتقل من شخص إلى شخص، ولم تكن للدولة عاصمة مُعيّنة، فالمدينة التي يقيم فيها الأمير الأقوى تصبح هي العاصمة. وقد تحقّق للبويهيّين أمل الوصول إلى بغداد والاستيلاء عليها بعد معارك عديدة وانتصارات عسكرية متوالية، خاصّة بعد أن ساءت الأحوال في عهد الخليفة المستكفي، وكان دخولهم بغداد في جمادى الأوّل سنة 334هـ، وبعد ذلك بقليل عمل البويهيّون على خلع المستكفي، الذي جاء من بعده خلفاء أصبحوا أدوات في أيديهم، ولم يكن للخلفاء من الأمر شيء سوى ذكر أسمائهم في خطب الجمعة ونقشه على السكّة. وفي المدّة التي ظهر فيها بنو بويه (334-447هـ) أُسندت الخلافة إلى خمسة من خلفاء بني العباس، هم: المستكفي، والمطيع، والطائع، والقادر والقائم.
وقد استبدّ البويهيّون بالحكم كلّه في أيديهم إثر دخولهم بغداد، ممّا ترتّب عليه ضعف مركز الخلافة حتى غدا الخليفة العباسي ألعوبة في أيديهم، يضاف إلى ذلك المعاملة السيّئة المهينة، التي درج عليها البويهيّون حيال الخلفاء، فمثلاً قام الأمير بهاء الدولة البويهي بمصادرة أموال الخليفة الطائع عندما احتاج إليها، وقد أشار إلى هذه الواقعة المؤرّخ ابن الأثير في تأريخه لحوادث سنة 381هـ(9). بعض الفقهاء، الذين رأوا أنه لا يجوز أنْ يُقال لأحد -غير اللّه عزّ وجل- "ملك الملوك". ولم يلبث أن تأثّر عامّة الناس بموقف هؤلاء الفقهاء، وحدثت اضطرابات بسبب هذه المسألة. مما دفع جلال الدولة بن بويه إلى اللجوء إلى "كبار" الفقهاء لاستصدار فتوى منهم بجواز اللقب، وبذلك تهدأ ثورة العامّة. وقد حرص بعض كبار الفقهاء على استرضاء ذوي السلطان، فكتب الصيمري الحنفي أنّ هذه الألقاب مثل "شاهنشاه" و"ملك الملوك" جائز ومعناه ملوك الأرض، وقال إنه إذا جاز أن يُقال "قاضي القضاة"، فإنه من الجائز أن يقال "ملك الملوك"، ووافقه على رأيه التميمي من فقهاء الحنابلة. في حين أنّ الماوردي أفتى بأنّه لا يجوز، وتشدّد في موقفه، وقطع ما كان بينه وبين جلال الدولة من علائق المودّة والصداقة. ولما طلب جلال الدولة الماوردي، قصده على وجل شديد، ولكنّ ابن بويه خاطبه بقوله: "أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلاّ الدين، فزاد بذلك محلّك عندي"(11).
ثانياً- مؤلّفات الماوردي
اشتهر الماوردي بكثرة التأليف، وغزارة الانتاج، فقال عنه ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": له تصانيف حسان في كلّ فنّ"(12) أمّا السبكي فيؤكّد أنّ الماوردي كان له "التفّنن التام في سائر العلوم"(13) أمّا الخطيب البغدادي، فيقول عنه إنّه "له تصانيف عدّة في أصول الفقه وفروعه وفي غير ذلك"(14).
لكن رغم هذه المؤلّفات الكثيرة، لم يعثر المختصون والباحثون إلاّ على اثني عشر كتاباً منها. ويمكن تصنيف مؤّلفات الماوردي في ثلاث مجموعات: دينيّة، ولغويّة أدبيّة، وسياسية اجتماعية. وهو ما ذهب إليه معظم دارسي مؤلّفات الماوردي(15).
فالمجموعة الدينيّة من كتب الماوردي تضم المؤلّفات التالية: كتاب تفسير القرآن، الذي يعرف بكتاب النكت والعيون، كتاب الحاوي الكبير، وهو مطوّل في فقه الشافعية يشتمل على 23مجلداً، كتاب الإقناع وهو مختصر لكتاب الحاوي الكبير، كتاب أدب القاضي، كتاب أعلام النبوّة (أي دلائلها).
ومن تآليف الماوردي اللغوية والأدبية نشير إلى: كتاب في النحو، كتاب الأمثال والحكم، كتاب "البغية العليا، في أدب الدين والدنيا".
أمّا مؤلفاته في السياسة والإدارة والمسائل الاجتماعية، فهي:
1-كتاب "قوانين الوزارة وسياسة الملك"، وقد طبع بالقاهرة سنة 1929 بعنوان "أدب الوزير". وهو كتاب يتضمّن القوانين أو الشروط التي تحكم الوزارة والوزراء، وكيف يساس بها الملك، ويبين فيه طبيعة منصب الوزير، وأنه سائس للرعيّة، ومسوس بالحاكم الأعلى، ويحدّد المبادئ التي يتوجب على الوزراء الالتزام بها، مثل: تحقيق العدل في الرعيّة، توليه الأكفاء الأمناء، الهيبة والصدق في القول والإخلاص في العمل.
يعرض لأقسام الوزارة: وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ، مع بيان الشروط الواجبة والحقوق التي في كل منهما.
يتناول موضوع تقليد الوزير وعزله. ويُعَدّ الماوردي من أوائل من كتبوا في مسألة العزل من الوزارة.
ويختم الماوردي كتابه بنصائح للوزير، تتمثّل في مراعاته لحقّ اللّه عليه، وحقّ الحاكم الأعلى (رئيس الدولة) والعباد، وأن يسلك طريق الشورى، ويلبّي حاجات الناس، وأن يكون متواضعاً رحيماً، وأنْ يتّقي دعوة المظلوم بتحقيق العدل بين الناس(16)
2-كتاب "نصيحة الملوك" وكان أوّل من أشار إليه فيما نحسب -حاجي خليفة صاحب "كشف الظنون، ثم تبعه بروكلمان، فجورجي زيدان، ومصطفى السّقا، والزركلي ولحقهم في هذا عددٌ من الباحثين المعاصرين(17) ويتضمّن آراء تتعلّق بفنّ الحكم والإدارة، من تعريف بعلم السياسة، ودور الملك فيها، وطبيعة العلاقة بين الملك والرعيّة، وواجبات الحاكم والرعيّة. كما يتضمن أحكاماً تتعلّق بالوزارة، والقضاء، والشورى وغيرها.
3-كتاب "تسهيل النظر وتعجيل الظفر"(18). ويتضمّن موضوعين أساسييّن: الأوّل: الكلام في أصول الأخلاق من الناحية النظرية، وبهذا يبدو الماوردي فيلسوفاً يحتلّ مكانة هامّة بين فلاسفة عصره كابن سينا ومسكويه.
والثاني: في سياسة الملك وقواعده، وهو قسم متصل بالعلاقات السياسيّة. وفيه ركّز على أنّ قواعد الملك تستقرّ بدورها على أمرين:
أحدهما: تأسيس الملك، وهو بتثبيت أوائل الملك ومبادئه، وإرساء قواعده ومبانيه.
وثانيهما: تهذيب الأعوان والحاشية، ويتمّ ذلك باختبارهم واختيارهم وإعطاء كل واحد منهم مقامه المستحق.
وبرأي الماوردي فإنّ الملك يُساس بثلاثة أمور هي:
1-القوّة في حراسته وحفظه.
2-الرأي في تدبيره وانتظامه
3-المكيدة في القضاء على أعدائه.
وقد ذكر الماوردي وسائل تثبيت قواعد الملك، وتدبير الرعيّة وأحوالها في السلامة واضطراب، واستقامة الأعوان وأحوالهم في الاستقرار وفي الاضطراب.
4-كتاب "الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة"، الذي ألّفه الماوردي بناء على طلب خليفة عصره، ويبدو أنّه الخليفة القادر باللّه، المتوّفى 422هـ.
وكانت هذه الأحكام -وفق تعبير الماوردي- "ممتزجة بالأحكام وكان يقطعهم عن تصفّحها تشاغلهم بالسياسة والتدبير"، فأفرد لها الماوردي هذا الكتاب "متمثلاً أمر من لزمت طاعته"(19) ويعدّ هذا الكتاب بحقّ مرجعاً لكلّ من يكتب في مبادئ الحكم وسياسة تدبير أحوال الأمّة. فقد تعرض فيه الماوردي للخلافة أو الإمامة، والوزارة والإمارة والقضاء وولاية المظالم، وأنواع الولايات:
كولاية النقابة على الأنساب، والولاية على إمامة الصلاة والولاية على المال، ووضع الدواوين وترتيبها ونظامها واختصاصها، وتتجلّى قيمة الكتاب في تركيزه على أولي الأمر ومن بيدهم زمام الأحكام من الخليفة إلى المحتسب "بعض الفوائد عنه"، والاستشهاد بكثير من آرائه ونظرياته وذلك لما احتواه من قيمة عملية وجدّة وطرافة. ويقول "ابن شهبة" عن كتاب "الأحكام السلطانيّة"، "إنه تضيف عجيب"(20) وقد استرعى هذا الكتاب نظر الباحثين في الشرق والغرب، إلى حدّ أنّ كبريات الدوريات والمجلاّت العالمية ما فتئت تنشر عشرات الأبحاث لكبار المستشرقين والدارسين للفكر السياسي ونظرياته وأنماط الحكم في الإسلام، مستندين بالدرجة الأولى إلى كتاب "الأحكام السلطانيّة" ومن أبرز المستشرقين الذين خصّوا بدراساتهم مؤلفات الماوردي، ولا سيّما كتاب "الأحكام السلطانيّة" "جب" و"بروكلمان" وغيرهما.
ومع أننّا سنتوقّف مطوّلاً عند أبرز مباحث "الأحكام السلطانيّة" في سياق هذه الدراسة، إلاّ أنّه يمكن الإشارة حالياً إلى أنّ هذا المؤلّف الجليل يتضمّن عشرين باباً: الباب الأول، في عقد الإمامة، والثاني، في تقليد الوزارة، والثالث، في تقليد الإمارة على البلاد، والرابع، في تقليد إمارة الجهاد، والخامس، في الولاية على الحروب والمصالح، والسادس، في ولاية القضاء، والسابع في ولاية المظالم، والثامن، في ولاية النقابة على ذوي الأنساب، والتاسع، في الولاية على إمامة الصلوات، والعاشر، في الولاية على الحج، والحادي عشر، في ولاية الصدقات، والثاني عشر، في قسم الفيء والغنيمة، والثالث عشر، في وضع الجزية والخراج، والرابع عشر، فيما تختلف أحكامه من البلاد، والخامس عشر، في إحياء الموات واستخراج المياه، والسادس عشر، في الحمى والأرفاق، والسابع عشر في أحكام الإقطاع، والثامن عشر في وضع الديوان وذكر أحكامه، والتاسع عشر في أحكام الجرائم، والباب العشرون في أحكام الحسبة.
ونظراً لأهمية الكتاب الفائقة فقد طبع في مصر ولبنان عدّة طبعات، وطبع من قبل أوروبا. وقد عدّه باحثون ومؤرخون وعلماء سياسة واجتماع "دستوراً سيّاسيّاً" و"قانوناً عامّاً" للدولة في عصر الماوردي.
وقد كتب الماوردي كتابه في ظلّ البويهيّين، وعرف ما لهم من سطوة وسيطرة على أمور الدولة والحكم، ولهذا نجد أنه يفرد بعد الإمامة والوزارة فصلاً خاصاً للإمارة، وضع فيه أسسها وقواعدها، وبيّن شرعيتها ونوعيّتها سواء ما كان منها إمارة استيلاء أو إمارة استكفاء.
ويتساءل المستشرق الانجليزي "جب" عن الأسباب التي جعلت "الماوردي يركّز اهتمامه البالغ على الإمامة ثم يركّز حولها كلّ وظائف الدولة، ثم يجيب بنفسه على تساؤله فيقول: يرى البعض أنّ الماوردي كتب دراسته عن نظرية الخلافة في وقت ضعفت فيه، بينما يرى البعض الآخر أنّ ما كتبه الماوردي عن نظرية الخلافة إنما يعكس الوضع المثالي للدولة كما يراها كنوع من الدولة المتصّورة، أو المثالية، مقارنة مع "جمهورية" أفلاطون، و"يوتوبيا" مور. لكنّه بطبيعة الحال يعتمد اعتماداً أساسياً على الأسس والمبادئ الإسلاميّة(21).
من ناحية أخرى يرى "جب" أنّه ليس من العدْل أن نعدّ الماوردي مجرّد شارح أو مفسّر لأعمال سابقة، كما أنّه ليس من العدل أن نتهمه بأنه حاول تطويع النظريات السابقة لتناسب عصره وزمانه، ذلك أنّ الماوردي لم يتردّد في أنْ يعبّر عن آرائه في صفحات كتابه "الأحكام" حتى ولو كانت مناقضة لآراء من سبقه من العلماء والمفكّرين(22).
وهذه الشهادة المنصفة تقدّم الماوردي كصاحب رأي مستقل وكمفكّر سياسي واجتماعي، عدا كونه من الفقهاء المعروفين، كما تضع فكره السياسي في عداء النظريات السيّاسيّة المستقلّة، التي تعبّر عن أصالة واجتهاد ومحاولة واضحة للمزاوجة بين المبادئ والقيم الإسلامية من جهة، والقضايا الواقعيّة العمليّة للسلطة وتطبيق الشرع وأحكامه من جهة أخرى.
وربّما لعقلانيته وفكره المستنير ولأحكامه العمليّة الجريئة اتّهم الماوردي بالاعتزال، أو لاعتماده على مقتضيات العقل في بحثه لمسائل الدين.. ممّا ألّب عليه مجموعة ممّن عاصره من الفقهاء والقُضاة، الذين لم يروا سداد آرائه في ما يتعلق بالتوفيق بين العقل والشرع في أحكامه واجتهاداته في الأمور الدينية والدنيوية. وقد أعمل الماوردي عقله في كل ما صدر عنه من آراء وأحكام، ومن هنا كان اتهامه بالاعتزال وهي تهمة كان يوجهّها المتشدّدون عادة لكل عالم مجتهد، صاحب فكر حرّ، يحكّم العقل في ما يناقش من مسائل وقضايا وأحكام. ومن المعروف عن المعتزلة أنهم يقدّمون العقل على السمع، ويقولون بسلطان عقل الإنسان وإرادته، مع تحفظّهم الواضح إزاء مسائل الجبر والحتمية والأمور المطلقة وأغلب مباحث المعتزلة لم تكن بعيدة عن الشؤون الإنسانية المعتادة، كما أنهم لا يقفون عند حدود الأوامر والنواهي، وإنما يجتهدون في قضايا كثيرة، ويزينون الفضائل والأخلاق بمقاييس الزمان والبيئة. وقد أدّى تمجيدهم للعقل إلى تفسيرهم القرآن بالمعقول أكثر من اعتمادهم على المنقول، وبنوا تفسيراتهم على أسس من التنزيه المطلق وحريّة الإرادة والعدل. وأبرز الاعتراضات عليهم كان بسبب نقلهم الدين إلى مجموعة من القضايا العقليّة والبراهين المنطقيّة. ولأنّ الماوردي اجتهد مُحكّماً عقله في كل ما تناوله من قضايا، كان اتهامه بالاعتزال.
وفي هذا السياق يقول عنه ياقوت الحموي: "إنّه كان شافعياً في الفروع ومعتزلّياً في الأصول على ما بلغني"(23) ويحكي السبكي في "طبقات الشافعيّة الكبرى" قصّة هذا الاتهام فيقول: "قال ابن الصلاح هذا الماوردي عفا اللّهُ عنه يُتّهَم بالاعتزال. وقد كنت لا أتحقّق ذلك عليه وأتأوّل له، وأعتذر في كونه يورد في تفسيره للآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسيراً لأهل السنة وتفسير المعتزلة، غير متعّرض لبيان ما هو الحقّ فيها. وأقول: لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق وباطل، ولهذا يورد من أقوال المشبّهة أشياء، مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة. وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشجوناً بتأويلات أهل الباطل، تلبيساً وتدسيساً على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنّه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق"(24).
وفي الحقيقة فإنّ الذي يذكره ابن الصلاح هو نوع من اجتهاد الماوردي، وترجيحه بين الآراء المعروضة ترجيحاً عقلّياً. والاجتهاد والتفكير في تدبير أوضاع الناس ومستجدات الفقهاء: إنّه لا يصحّ أن يخلو عصر من وجود مجتهد. وقد اجتهد الصحابة في كثير من الأحكام، وكانوا يقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره. والرسول (ص) أقرّ معاذاً على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصّاً (عندما أرسله إلى اليمن).
ويقول عبد الوهاف خلاف في كتابه "السياسة الشرعيّة"(25) إنّ هذه الروح (روح الاجتهاد) قد ظهرت فيما سلكه الراشدون بعد وفاة الرسول في تدبير الشؤون العامّة للدولة، فكانوا يهتدون في نظمهم وسائر تصرفاتهم بشرع الله في كتابه، وعلى لسان رسوله. وإنْ حدثَ لهم ما ليس له حكم في كتاب اللّه ولا سنّة رسوله اجتهدوا رأيهم، واتّبعوا ما أدّى إليه اجتهادهم، مما رأو فيه مصلحة الأمّة ولا يخالف روح الدين. وكثيراً ما كان اجتهاد أحدهم يخالف اجتهاد صاحبه، بل قد يخالف ما يفهم من ظاهر النص. وما اتهم مجتهد منهم أنه على غير الحق أو تنكّب طريقه، ما دامت الغاية: المصلحة وعدل اللّه والوسيلة اجتهاد الرأي وإنعام النظر.
ولهذا يقول ابن القيّم الجوزيّة: إنّ من قال لا سياسة إلاّ بما نطق الشرع فقد غلط وغلّطَ الصحابة. "ولما بعث عُمُر شريحاً على قضاء الكوفة قال له انظر ما يتبيّن لك في كتاب اللّه فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب اللّه فاتبع فيه سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، وما لم يتبيّن لك فيه السّنّة فاجتهد فيه رأيك"(26).
وقد سار مفكّرنا الماوردي (وهو الفقيه الشافعي وأقضى القضاة كما لقبّوه) على منوال الشريعة، مقتدياً بالصحابة والخلفاء والأئمة المجتهدين، في ما كانوا يقومون به بأنفسهم من استنباط الأحكام الشرعيّة لمعالجة القضايا التي تعرض عليهم. فليس بمستغرب، إذن، أن يجتهد الماوردي رأيه في ما ليس له حكم في القرآن الكريم أو سنّة رسول اللّه (ص)، وليس بمستغرب بعد ذلك أن يتّهمه بعضهم بالاعتزال.
ومن الواضح لنا بعد ما تقدّم أنّ هذا الاتهام للماوردي مرجعه الاجتهاد، وموازنة الماوردي بين الآراء وترجيحه بعضها على بعض، دون النظر إلى قائل هذا الرأي أو ذاك، ومن هنا كان التشابه بين بعض آراء الماوردي وبعض آراء المعتزلة.
وقد تولّى السبكي بنفسه الدفاع عن الماوردي ضد اتهام ابن الصلاح له بالاعتزال، فيقول: "ثمّ هو ليس معتزلّياً مطلقاً، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم، مثل خلق القرآن، كما دلّ عليه تفسيره لقوله عزّ وجلّ: "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث.." وغير ذلك. ويوافقهم في القدر، وهي البليّة التي غلبت على البصرييّن، وعيبوا بها قديماً"(27).
ويقول الخطيب البغدادي، صاحب "تاريخ بغداد" وأكبر تلاميذ الماوردي، والأقرب إليه من ابن الصلاح، يقول في معرض دفاعه عن الماوردي: "كتبت عنه وكان ثقة" وهذه شهادة من عالم جليل، ومطلع بصير بتاريخ الرجال وأحوالهم، وهي أجدر بالتقدير والتصديق من قول ابن الصلاح(28).
وممّا يدلّ على القيمة الكبيرة والأهمية الفائقة أنّ الدكتور طه حسين في رسالته العلميّة عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة قد نقل قسماً كبيراً من معلوماته التي تتناول مسألة الخلافة ومهمّاتها والملك ورسومه عن الماوردي. وقد أكّد في هذا السياق إنّ كتاب "الأحكام السلطانيّة للماوردي يُعَدّ من المصادر الهامّة التي اعتمد عليها ابن خلدون، كما أنّ معلومات ابن خلدون في هذا المبحث كان ينقصها الطرافة.."(29).
وبالتالي فإنه ليس بُمستكثر على الماوردي أنْ يُعَدّ من أوائل مفكّري الإسلام في ميدان البحث والتأليف والتصنيف في علم السياسة وتدبير شؤون الناس والبلاد.
ونظراً لأصالة أفكاره ومؤلّفاته وشموليتها وتكامليتها، فقد وجدنا من الأهميّة البالغة ضرورة التوقّف عند أبرز آرائه واجتهاداته، التي تشكّل العناصر والمكوّنات الأساسيّة لنظريّته السيّاسيّة، خصوصاً في مسائل الإمامة (الخلافة/ الحاكمّية) ووسائل اختيار الحاكم، وواجباته تجاه الأمّة، والفرق بين الإمامة والوزارة، وأهمية منصب الوزارة في الإسلام، ونصائح الماوردي للحكّام والوزراء.. وغير ذلك من مباحث وقضايا ارتكازية ومحوريّة في السياسة وأصول الحكم..
مع الإشارة إلى أنّنا نبحث هذه المسائل هنا بصورة أقرب إلى الاختصار، تقيّد بمقتضيات النشر والحيّز، الذي يمكن للباحث أن يتحرّك في إطاره.
ثالثاً: محاور ومرتكزات النظريّة السيّاسية عند الماوردي:
ترتكز النظريّة السيّاسيّة عند الماوردي على أُسس ومفاصل كثيرة ومتنوّعة، يمكن تلخيصها عموماً بالمحاور التالية:
1-وجوب الإمامة، وأهمّية الخلافة (الحاكمّية) في الإسلام
2-أسس الإمامة، وأهلها، والشروط الواجب توافرها في الحكّام.
3-الأمور التي تستوجب عزل الحاكم.
4-أهل الاختيار
5-تقليد الوزارة وأنواعها، وشروطها.
6-وصايا الماوردي ونصائحه للوزير.
1-وجوب الإمامة وضرورة وجود الحاكم:
تجمع فلسفة الماوردي السيّاسيّة بعمومها وشمولها من جهة، وبواقعيتها العيانية المحسوسة من جهة أخرى ما بين الناحيتين الروحيّة والماديّة (المثالية القيّمية والواقعيّة -العمليّة) وهو يستند بذلك إلى أنّ الإسلام لم يحاول الفصل بين شؤون الدين والدولة، وكان نظام الخلافة يتضمن رئاسة الخليفة لأمور الدين والدنيا، وأنّ الخليفة لم يكن يستمّد سلطته من اللّه، وإنما يستمّدها من الأمّة، التي تختاره لهذا المنصب، وتشدّ من أزره وتمنحه القوّة والشرعيّة، إمّا مباشرة أو من خلال عقلائها وحكمائها (أهل الحلّ والعقد) ويعتمد شرعية حكمه على ثقتهم به ودفاعه عن مصالح البلاد والعباد. والإمام أو الخليفة أو الحاكم أو الرئيس الأعلى للدولة، ما هو إلاّ شخص اختارته الأمّة ليكون مثلاً لها، ويتولّى الإشراف على أمورها وتدبير شؤونها، والتزام مصالحها في الحرب والسلم، ومن ثم يجب عليها تقديم النصيحة له فيما ينبغي النصيحة فيه، والتوجيه والتقويم، ومن حقّ الأمّة أيضاً عزله إن توجّب العزل، كما هو الأمر بالنسبة للموكّل مع وكيله النائب عنه.
وبالتالي فإنّ الماوردي لا يقرّ للخليفة بمركز خاص في الأمّة يحميه من النصح والتوجيه، ويعفيه من واجباته ومسؤولياته تجاه الأمّة والبلاد.
ونظرية الماوردي تبدأ بنقطة هامّة وهي ضرورة وجود سلطة حاكمة، تقوم "بحراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع.. وقالت طائفة وجبت بالعقل لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين. وقد قال الأفوه الأودي، وهو شاعر جاهلي:
لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم
ولا سراة إذا جّهالهم سادوا"(30).

ويقول الماوردي، أيضاً، في كتابه "أدب الدّنيا والدين": "اعلم إنّ ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، وهي قواعدها وإن تفرّعت، وهي: دين مُتّبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح" "والسلطان القاهر، تتآلف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفّرقة، وتنكف بسطوته الأيدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية، لأنّه في طباع الناس من حبّ المغالبة والمنافسة على ما آثروه، والقهر لمن عانده، مالا ينكفون عنه إلاّ بمانع قوي، ورادع ملي.. [ومن هذه الوجوه] وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت، زعيم الأُمّة، ليكون الدين محروساً بسلطانه، والسلطان جارياً على سنن الدين وأحكامه"(31).
وقد ذهب هذا المذهب عددٌ من فقهاء الإسلام وعلمائه، مثل الجويني، إمام الحرمين، الذي يقول: "ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحقّ جامع ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع مع تفنّن الآراء، وتفرّق الأهواء، لتبّتر النظام وهلك الأنام، وتوثّب الطغام والعوام وتخرّبت الآراء المتناقضة، وتفرّقت الإرادات المتعارضة، وملك الأرذلون سراة الناس وفضّت المجامع، واتسع الخرق على الراقع، ونشبت الخصومات، واستحوذ على أهل الدين ذوو الغرامات، وتبدّدت الجماعات"(32).
ويؤيّد هذا الرأي عبد الرحمن بن نصر، حيث يقول: "إنّه لمّا كانت الرعيّة صنوفاً مختلفة، وشعوباً مختلطة متباينة الأغراض والمقاصد، متفرّقة الأوصاف والطبائع، افتقرت ضرورة إلى ملك عادل، يقوم بأودها، ويقيم عمدها، ويمنع ضررها، ويأخذ حقّها، ويذهب عنها ما أشقّها"(33).
وكذلك فإنّ ابن خلدون يرى أنّ الخلافة أو الحكومة ظاهرة طبيعية، ملازمة بشكل أو بآخر للاجتماع الإنساني. ويذهب (بعد استفاضة في شرح طبيعة المجتمع الإنساني) إلى القول بأنّ "هذا الاجتماعي ضروري للنوع الإنساني، وإلاّ لم يكمل وجودهم وما أراده اللّه من اعتماد العالم بهم واستخلافهم.."(34). كما يؤكّد في هذا المنحى أنّه لا بدّ مع هذا الاجتماع من وجود الوازع للبشر، وهو القوّة الغالبة التي تمنع التغالب بين آحاد الناس: "ثم إنّ هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قرّرناه وتمّ عمران العالم بهم، فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانيّة من العدوان والظلم.. فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحدٌ إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.."(35). وهذا يعني أنّ الدولة أو السلطة ظاهرة طبيعية في الاجتماع الإنساني، دورها في منع التنازع المفضي إلى المقاتلة والهرج وسفك الدماء وإزهاق الأرواح. وبالتالي يستحيل بقاء الناس في فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض، ولهذا فإنّ الناس يحتاجون إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، الذي يمنع التعدّي ويرفع التنازع، وهذا هو الذي يولد الحكم والملك بوجه عام، والدولة بوجه خاص. والحكم، بهذا المعنى (الخلدوني)، منصب طبيعي، ووظيفة ملازمة للمجتمعات الإنسانيّة(36).
من ناحية أخرى يُعرّف ابن خلدون للخلافة يضاهي إلى حدٍ كبير تعريف الماوردي للخلافة بأنّها "خلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا".
واللاّفت للانتباه أنّ ابن خلدون أشار إلى نوعٍ آخر من الحكمْ أو المُلْك، هو الحُكْم أو "الملُكْ السياسي" وعَرّفه بأنه: "هو حمل الكافّة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيويّة ودفع المضار"(38) وقوانين هذه الدولة "مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبُصرائها"، وبالتالي فإنّ سياستها "عقليّة" أو بحسب القوانين الوضعّية، التي لا تلتزم بأحكام الشرع. في حين إنه "إذا كانت مفروضة من اللّه بشارع يقرّرها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.."(39).
وفي ما يتصل بأهميّة الخلافة (أو الإمامة أو الحاكمّية) في الفكر السياسي الإسلامي، فإنّ عدداً قليلاً من العلماء -ومنهم الشيخ الأستاذ علي عبد الرزاق- ينكرون على الإسلام أنه نظام يجمع بين الشؤون الدينيّة والدنيويّة، وأنّ الشرع الإسلامي يوجب تنصيب حاكم عام (خليفة) للأمّة. فهو يقول في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" ما نصّه: "والحق أنّ الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيّأ وأحوالها من رغبة ورهبة، ومن عزّ وقوّة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينيّة كلاّ ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلّها خطط سياسيّة صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة"(40).
بينما نجد بالمقابل أنّ الماوردي يؤكّد أنّ "الإمامة موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع.."(41) ويذهب الماوردي أيضاً إلى أنّ مما تصلح به الدنيا السلطان القوي العادل، فهو الذي تتآلف بسلطته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكّف بسطوته الأيدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية(42).
ويلتقي مع الماوردي في هذا الرأي القائل بضرورة الإمامة ووجوب تنصيب الخليفة أو الحاكم الأعلى مجموعة كبيرة من فقهاء وعلماء ومفكّري الإسلام، ونخصّ منهم على وجه التحديد ابن خلدون في "مقدّمته" الشهيرة، والإمام الجويني- أمام الحرمين في كتابه "غياث الأمم في التباث الظلم"، وأبا يعلى الفّراء في كتابه "الأحكام السلطانيّة"، وابن حزم الأندلسي في كتابه "الفصل في الملك والأهواء والنحل"، وابن تيمّية في كتابه "السياسة الشرعيّة".
وعلى أيّة حال فقد قام بالردّ على آراء الأستاذ علي عبد الرزاق عالمان أزهريان أيضاً، هما الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر سابقاً في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، والأستاذ المفتي الشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم".
والحقيقة فإنّ الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة السيّاسيّة وفقهاء المسلمين حول موضوع الخلافة وأصول الحكم، أدّى إلى تكوين مختلف الفرق والأحزاب السيّاسيّة في الإسلام(43). حيث نتج عن بحوث هذه الفرق والأحزاب، المتعلقة بالإمامة والخلافة وشؤون الحكم، علمٌ إسلامي بحت هو علم الإمامة أو النظريّات السيّاسيّة الإسلامية. ولعلّ هذا هو ما قصده الإمام الشهرستاني بقوله: "وأعظم خلاف في الأمّة خلاف الإمامة، إذْ ما سُلّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ماسُلّ على الإمامة في كلّ زمان"(44).
ويوجب الإمامة أهل السنّة جميعاً، والمعتزلة والخوارج، باستثناء عدد قليل من أولئك وهؤلاء، وهذا أيضاً هو رأي الشيعة، إلاّ أنّ لهم وجهة نظر خاصة في فهم هذا الوجوب للخلافة. وقد نناقش هذه المسألة وما يتصل بها من قضايا وآراء وتفسيرات في أبحاثنا ودراساتنا القادمة، إجلاءً للحقائق وتوضيحاً للمواقف والاجتهادات.
وعموماً يمكن القول إنّ الماوردي عني بمشكلات الحكم وأساليب السّلطة، وإدارة شؤون البلاد والولايات، بل إنّ نظام الحكم وأصوله وفنونه يُعَدّ من أبرز ما بحثه وألف فيه الماوردي، وما تركه لنا من تراث خالد، لا يستطيع أيّ مؤرخ أو دارس أو باحث في شؤون السياسة أن يتجاهله أو يقفز على مباحثه وتفريعاته وأطروحاته الغنيّة -نظريّاً وعملّياً.
ونخلص من ذلك إلى القول بأنّ ولاية الناس من وجهة نظر الماوردي هي من أعظم واجبات الدين، ولا قيام للدين إلاّ بها، تمشيّاً مع الحديث النبوي الشريف: "إنّ أحبّ الناس إلى اللّه يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل، وأبغض الناس إلى اللّه وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر". وبالتالي فإنّ عقد الإمامة واجب (بحسب الماوردي) شرعاً وعقلاً "وفرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها على الكفاية. وإنْ لم يقم بها أحدٌ خرج من الناس فريقان: أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماماً للأمّة، والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأُمّة في تأخير الإمامة حرج ولا مأتم"(45).
2-أُسس الإمامة، وأهلها، والشروط
الواجب توافرها في الحكّام:
يرى الماوردي أنّ أُسس الإمامة مستقاة من القرآن الكريم والسنّة النبويّة. وتجري وفق الشورى والبيعة. وهي عقد مبايعة بين من يقوم من أهلها، وبين أهل الحلّ والعقد من الأمّة على أن يقوم فيهم بحراسة دينهم وسياسة دنياهم، بحسب ما جاء في كتاب اللّه وسنّة رسوله أو ما استمدّ منهما من إجماع أو قياس صحيح، بحيث لو لم يحصل هذا العقد بين الإمام والرعيّة يقع في الحرج والإثم فريقان، أحدهما أهل الاختيار وهم أهل الحلّ والعقد، ولا يخرجون عن ذلك إلاّ بأن يختاروا إماماً للأُمّة، وثانيهما من يكون أهلاً للإمامة حتى ينتصب من الأمّة أحدهم للإمامة ويقبل البيعة على شرطها، وليس على من هذين الفريقين من الأُمّة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم.
واختيار الإمام الخليفة (الحكم الأعلى) هو بـ "المبايعة" من أُولي الحلّ والعقد، أي أنّ أُولي الحلّ والعقد والجند وجمهور الناس يعطون الإمام الخليفة (الحاكم) عهداً على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ما لم تكن معصية، ويعطيهم العهد على أن يقيم الحدود والفرائض، ويسير بالعدل، وعلى مقتضى كتاب اللّه وسنّة رسوله (ص). والإمام أو الحاكم بمقتضى هذه "المبايعة" وهي "عقد متبادل" بين الحاكم والمحكومين يتولى إذن الحكم برضا المحكومين. و"هذا العهد على الطاعة يكون للخليفة وحده وليس لزوجته، وذلك على عكس ما كان يحدث في الدول المسيحيّة كبيزنطة مثلاً، التي كانت فيها تولية الملك الحكم تعني تولية زوجته معه"(46).
ويمكن القول إنّ الماوردي كان من أوائل من ركّزوا على أنّ العلاقة بين الإمام أو الحاكم من ناحية، وجمهور الأمّة (الرعيّة) من ناحية أخرى هي عقد اجتماعي. والأمر عنده لا يعدو أن يكون عقداً عرفيّاً، ينّظم العلاقة بين الحاكم ورعاياه في ظل مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة، بحيث إذا أخلّ أحد الطرفين بشرط العقد أو أهمل في واجباته نحو الطرف الآخر، جاز لهذا الطرف الأخير (الذي تعرّض للغبن أو التدليس) التحلّل من شروط العقد والبيعة.
وفي رأي الماوردي لا بدّ من توافر شروط عديدة في الإمام أو الحاكم، أولّها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعيّة وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤديّة إلى حماية البيضة وجهاد العدوّ(47).
فإذا اجتمع أهل الحلّ والعقد للاختيار تصفّحوا أحوال أهل الإمامة (أحوال وصفات المرشّحين) الموجودة فيهم شروطها، فقدّموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعيّن لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختيار عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمّة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يُجب إليها لم يجبر عليها، لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها. فلو تكافأ في شروط الإمامة إثنان قُدّم لها اختياراً أسنّهما وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطاً، فإن بويع أصغرهما سُناً جاز، ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت(48).
وفي هذا السياق يؤكّد الدكتور طه حسين: "إنّ أمر الخلافة قام على البيعة، فأصبحت (الخلافة) عقداً بين الحاكم والمحكومين، يعطي الخلفاء من أنفسهم أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي ما وسعهم ذلك. ويعطي المسلمون من أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا، وأن ينصحوا ويعينوا"(49).
ويقول الماوردي بصدد أنّ الأمّة هي الأصل والمرجعية الأخيرة في عقد الإمامة أو الحاكّمية: "فإن تنازعاها (أي إنْ تنازع إثنان على الإمامة أو الحكم) وادعّى كلّ واحد منهما أنه الأسبق لم تسمع دعواه، ولم يحلف عليها، لأنّه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حقّ المسلمين جميعاً، فلاحكم ليمينه فيه ولا لنكوله عنه"(50).
من جهة أخرى يتحدّث الماوردي بالتفصيل على واجبات الحاكم، وما يقتضي التزامه به من الأمور العامّة، وهي عشرة أشياء(51).
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرّة وما أجمع عليه سلف الأمّة، فإنْ نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجّة وبيّنَ له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل والأمة ممنوعة من الزلل.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، فلا يتعدّى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة(52) و؟؟؟ عن الحريم ليتصرّف الناس عن المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم اللّه تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدّة المانعة والقوّة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغّرة ينتهكون فيها محرماً أو يسفكون فيها المسلم أو مُعاهد دماً.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق اللّه تعالى في إظهاره على الدين كلّه.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.
الثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوّض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.
والعاشر: أن يباشر بنفسه الأمور وتصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملّة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشّ الناصح.
ويقول الماوردي- بعد أنْ ذكر الواجبات المفروضة على الحاكم- ما نصّه: "وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأُمّة فقد أدّى حقّ اللّه تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقّان: الطاعة والنصرة، ما لم يتغّير حاله.."(53) وهذه العبارة هامّة جدّاً، لأنّ الماوردي استهلها بـ "إذا" وهي أداة شرط، بمعنى أنّ الطاعة والنصرة لا تجب على الرع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
أبو الحسن الماوردي وفكره السياسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  التحليل السياسي
» محاضرات في تاريخ الفكر السياسي:الفكر السياسي الليبرالي
» فكر الكواكبي السياسي
» الامن السياسي
» الإستبداد السياسي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى قالمة للعلوم السياسية :: ******** لسا نـــــــــــــــــــــــس ******** :: السنة الأولى علوم سياسية ( محاضرات ، بحوث ، مساهمات )-
انتقل الى:  
1