فالحاجة الى القواعد القانونية كمعيار للسلوك الاجتماعي تفرضها طبيعة الحياة الاجتماعية وضرورة استقرارها، لانها تحدد للافراد مقدماً مراكزهم القانونية وتجعلهم على بينة من نتائج تصرفاتهم مما يضفي قدراً من الطمأنينة على الحياة الاجتماعية.
الا ان السير التلقائي للنظام القانوني لايتحقق دائما، فان توفرت عوامل تدفع الفرد الى التوافق مع القانون،فان هناك عوامل اخرى قد تدفع بعض الافراد الى الخروج عن القانون مردها في الغالب القصور الذاتي والمصالح المتعارضة ذات الصبغة الانانية وهكذا تظهر على النظام القانوني عوارض تعيق سيره التلقائي.
وعند هذة النقطة يبرز دور القضاء لتحقيق فاعلية القانون في الحياة الاجتماعية بأزالة هذه العوارض، والوظيفة القضائية بهذه الصورة تنحصر مهمتها في حماية النظام القانوني، فهي لاتتدخل الا اذا طراْ عارض قانوني، وهي تتدخل في حدود هذا العارض ولمجرد ازالته دون ان تتجاوز الى اسبابه.
دور الاجتهاد القضائي في تطوير النظام القانوني
هناك امثلة كثيرة عن اجتهادات المحاكم التي استقرت واصبحت كالقاعدة القانونية سواء بسواء، فقد اجتهد القضاء الفرنسي وقرر ان البطلان الذي يشوب بيع ملك الغير هو بطلان نسبي، فاستقر هذا الاتجاه واتبعته جميع المحاكم،رغم ان المادة(1599) مدني فرنسي لم تنص على اكثر من القول على ان بيع ملك الغير باطل ولم تحدد هل هو بطلان مطلق ام بطلان نسبي، وبديهي ان يترتب على هذا الاجتهاد خلق مراكز قانونية جديدة لاطراف العلاقة القانونية في بيع ملك الغير لم يكن النص قد تضمنها لا صراحة ولا ضمناً.
وأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الاثراء دون سبب رغم انه لايوجد مبدأ عام في القانون الفرنسي يقرر هذه النظرية، وكانت حجته في ذلك ان هناك نصوص تشريعية وردت بشأن بعض حالات الاثراء دون سبب، كالفضالة ودفع غير المستحق ونحوهما، فأعتبرها القضاء الفرنسي ليست سوى تطبيقات متفرقة لهذا المبدأ وردت على سبيل المثال لا الحصر فأدخل المبدأ كله جملة وتفصيلا الى النظام القانوني الفرنسي بأجتهاده فأصبحت النظرية اليوم كأنها القانون المسنون لا يستطيع احد القول ان القانون الفرنسي لا يأخذ بها.
ومن الامثلة على اثر تغير المباديء والمثُل الاجتماعية على الاجتهاد القضائي، اقرار نظام التعسف في استعمال الحق دون نص خاص، حيث ان القانون الفرنسي والقانون المدني المصري القديم لم يتضمنا نصاً خاصاً بذلك، وكان ذلك بدافع النظرة التقديسية الى حق الملكية والحقوق الفردية، حيث عرف حق الملكية فيهما بانه (الحق للمالك في الانتفاع بما يملكه والتصرف فيه بطريقة مطلقة).
الا ان النظرة الاجتماعية للحق ومنه حق الملكية تغيرت بمرور الوقت واصبح ينظر للحقوق على ان لها وظيفة اجتماعية تؤديها في اطار عموم مصالح المجتمع،فظهرت اتجاهات فكرية تنادي بضرورة الحد من اطلاق الحقوق وتقييدها بواجب عدم التعسف في استعمالها.
تأثر القضاء الفرنسي والمصري بهذه النظرة المتطورة للحقوق، فأقر مبدأ نسبية الحقوق وقيدها بواجب عدم التعسف في استعمال الحق،واعتبر من يتعسف في استعمال حقه كمن يرتكب عملا غير مشروع ويكون مسؤولا عن الاضرار التي تلحق بالغير جراء ذلك التعسف.
كما اورد القضاء العديد من القيود على مبدأ، العقد شريعة المتعاقدين،التي املتها النظرة الانسانية الجديدة للعلاقة بين الدائن والمدين وتخلصاً من المساويء الاجتماعية الكثيرة التي نشأت بسبب تطبيق هذا المبدأ في صورته الاولى. ومن ذلك ان القانون المدني المصري القديم كان ينص على انه (اذا كان مقدار التضمين في حالة عدم الوفاء مصرحا به في العقد او في القانون فلا يجوز الحكم بأقل منه ولا بأكثر)،الا ان القضاء المصري اجاز لنفسه تخفيض التعويض المتفق عليه اذا كان مبلغ التعويض المتفق عليه مبالغاً فيه الى درجة كبيرة ولا يتناسب مع الضرر الذي اصاب الدائن بالرغم صراحة النص مستجيباً في ذلك لاعتبارات العدالة والملائمة ومرجحاً اياها على الاعتبارات التي أملت النص.
ومن جانب اخر، فان اعتماد القضاء الانكليزي على المعايير القانونية اتاح له تطوير الاحكام القضائية التي كانت غالبا ما تتقيد بالاعراف القضائية، ومنها معيار المعقولية، ومفاده ان تفسير القوانين والاعراف وتكييف الوقائع ينبغي ان يكون في النهاية منسجماً مع مقتضيات العقل والفهم الصحيح للامور، وبتطبيق هذا المعيار على الشروط العقدية التي اختل توازنها بسبب ما طرأ من ظروف جديدة لم تكن بالحسبان عند التعاقد، يتبين مايلي: ان تلك الشروط تقوم في الاصل على مصلحة الدائن والمدين معاً، الا ان تطبيق معيار المعقولية، يكشف عن وجود مصلحة ثالثة، هي مصلحة الجماعة، التي يهمها ان ان تنفذ هذه الشروط، بشرط ان لا يترتب على تنفيذها افلاس مدينين (تجار) معقولين، الا انهم كانوا سيء الحظ بسبب ظروف اجنبية لادخل لارادتهم في تحققها. فحكم القضاء الانكليزي بفسخ مثل هذا العقد حيث ثبت لديه ان المدين لم يكن مخطئاً، وان التنفيذ قد اصبح مرهقاً بشكل لو امكن لرجل عاقل ان يتنبأ به لما تعاقد.
ومن الجدير بالذكر ان قانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) كان قد اعتمد مفهوم السبب الاجنبي الذي يعفي المدين من تنفيذ التزامه، فالمادة (48) منه تقرر اعفاء المزارع الذي يهلك زرعه بفعل الفيضان من تقديم حبوب الى دائنه في ذلك العام ويعفى من الفوائد الخاصة بتلك السنة.
الشريعة الاسلامية
رفض فقهاء الشريعة الاسلامية منطق مدرسة الشرح على المتون والمدارس الشكلية قبل مئات السنين من انطلاقتها ويكاد ان يجمع فقهاء الشريعة الاسلامية على ان النصوص تسري بلفظها وفحواها،بمعنى ان التفسير اما ان يقوم على استخلاص معاني النصوص من ظاهر عبارة النص ودلالة الفاظه (دلالة اللفظ على المعنى)، او ان يقوم على أستخلاص معاني النص من دلالات مضمون عبارة النص(دلالة النص على مضمونه) ولذلك قالوا ان العبرة في المقاصد والمعاني لا في الالفاظ والمباني. وتفسير علماء المسلمين تفسير علمي وعقلي يتميز بحرية فكرية محفوفة بالمشروعية.
وقد تبنى الفقه الاسلامي بكافة مذاهبه هذا الاسلوب في التفسير، بأستثناء اهل الظاهر الذين تمسكوا بحرفية النصوص ويقابلهم في الفقه القانوني الغربي مدرسة الشرح على المتون كما سبق البيان، وكلا المدرستين مندثرتان في الحال الحاضر، باستثناء انه يوجد لهما تطبيق واسع لدى رجال الادارة والقضاء في بعض البلدان العربية، بالنظر لقعودهم عن مواكبة القفزات الهائلة في مختلف العلوم والنشاطات الاقتصادية والسياسية والحاجات الاجتماعية المتسارعة في كل يوم. وواضح، من التفسيرات الاجتهادية العميقة التي جاء بها فقهاء المسلمين وكذلك الفقه والقضاء المعاصر لمعالجة النقص في التشريع، ان ادراك الانسان لايقف عند حدود الالفاظ كما انه لايجمد عند المعنى الحرفي للنص وانما يغور في اعماق النصوص ويكتشف انواعا من المعاني والعلاقات المتلازمة بينها، والغاية مسايرة تفسير القانون مع تطور المجتمع وبهدف الوصول الى حلول لمسائل لم تعالجها النصوص وفقا لحكمة التشريع وروح النصوص والاعراف المتواترة والمبادىء العامة وقواعد العدالة. ومن الامثلة الملفتة للنظر، تفسير فقهاء المسلمين قوله تعالى (واتوا اليتامى أموالهم)(11) فذهبوا الى ان المقصود هو، واتوا البالغين منهم، رغم ان البالغ لايوصف باليتم. من ذلك تفسيرهم لقوله تعالى ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف))(12) ومن الواضح ان هذه الاية الكريمة قد انزلت اصلا لبيان ان نفقة الوالدات والمرضعات وكسوتهن على الوالد وجوباً. ولكن المتأملين المتعمقين فيها ادركوا انها تشير الى مدلولات واحكام فقهية اخرى لم تكن ظاهرة في سياق النص ولكنها من لوازمه. وقالوا، ان في هذه الاية اشارة الى ان النسب للأباء فقط استدلالا من اللام التي تفيد الاختصاص في قوله تعالى (وعلى المولود له) والى ان الأب، مادام مختصا بالنسب، لايشاركه احد في النفقة لولده عليه،وفهم من هذا الاختصاص ايضا ان الاب له عند احتياجه ان يمتلك بغير عوض من مال ابنه مايسد به حاجته لأن اللام للملك والاختصاص وأذا كان تملك الولد غير ممكن فتملك ماله امر وارد وجائز. وفي ذلك قال الفقهاء المسلمين، أن دلالات النصوص على الاحكام لاتقف عند حدود المعنى الحرفي والسطحي للنص وانما تتعداها الى جوهر النصوص ومعقولها.
farisalajrish@yahoo.com
.....................................
الهوامش:
(1) ـ تقنين نابليون او القانون المدني الفرنسي الصادر عام (1804)، ويعتبر من اهم انجازات الثورة الفرنسية (1789) وجاء معبرا عن مباديء وقيم هذه الثورة مرسخاً مبدأ سلطان الارادة والحرية الفردية ومبدأ (العقد شريعة المتعاقدين)، وقد انبهر العلماء الفرنسيون بضخامة المبنى وجمال التركيب في قانون نابليون، وقيل انه نتاج رفيع لعظمة العقل البشري وتجسيد خالد لعبقرية امة عظيمة.
(2) ــ هانز كلسن، فقيه نمساوي، صاحب النظرية المحضة في القانون.
(3) ــ المنهج، لغة هو الطريق الواضح، ويقصد به اصطلاحا البرنامج الذي ينظم سلفاً سلسلة من العمليات يزمع القيام بها، وينبه الى وجود اخطاء يتعين تحاشيها، بغية الوصول الى غاية محددة، ومن ثم كانت فكرة المنهج توحي دائما باتجاه محدد المعالم ومتبع بانتظام في عملية ذهنية، والمنهج القانوني هو سبيل التفكير في مجال القانون.
(4) ــ رغم ان ارسطو، واضع علم المنطق، كان قد اقر بنقص القانون الموضوع من البشر، ودعا الى ملائمة العدالة بالنسبة للحالات الخاصة، كما تنبهت التشريعات التشريعات القديمة الى مشكلة النقص في التشريع، فقد عرض لها مانو حكيم الهند قبل حوال الفي سنة، فالزم القاضي ان يحكم وفقاً للعرف المحلي والشريعة المقدسة، ثم احاله عند انعدام النص الى القانون السرمدي.
(5) ــ العصر العلمي (130ق.م ـ 284م).
(6) ــ الفقيه (Geny)، فقيه فرنسي كبير له الفضل في التفرقة بصدد تكوين القاعدة القانونية بين الجوهر والشكل في مؤلفه القيم (العلم والصياغة في القانون الخاص الوضعي).
(7) ــ المعطى والبناء،يعتبر الشيء معطى بصفة عامة حين يكون موجوداً دون اي تدخل منشيء من جانب الانسان، فهي حقائق موجودة خارج النظام القانوني، مثل الطبيعة والكائنات وحوادث التاريخ...، اما مصطلح البناء (او المنشأ او المستحدث) فيطلق عموما على الشيء الذي يكون سبب وجوده هو نشاط الانسان، كالمنزل والشعر والاستدلال المنطقي والدولة، وفي مجال القانون يستعمل المصطلح للدلالة على طابع قانوني، كالعقد والزواج والشركة والوطن والملكية....
(
ــ يرى بعض مؤرخوا القانون، ان اصل نشوء وتقديس الملكية العقارية يعود الى ان القدماء كانوا يدفنون اسلافهم في حدود الاراضي التي يقومون بزراعتها، مما اضفى على الارض صفة مقدسة،وتدريجيا اعترفت الاقوام لبعضها بحق السيطرة على هذه الارض التي تضم الاسلاف، فنشأ نظام الملكية العقارية.
(9) ــ من المعلوم ان السلطة التشريعية تسمو مركزا على باقي السلطات داخل الدولة من الناحية الدستورية، الا ان كثرة عدد اعضائها وضمها لاتجاهات فكرية وعرقية متنوعة وتميز اعمالها بالمنازعات الفكرية، جعل من اعمالها متسمة بالبطء والتأخير، بينما تتسم اعمال السلطة التنفيذية بالسرعة في مواجهة الحدث ووحدة مصدر القرار فضلا عن سيطرتها على اجهزة القمع والردع، مما جعل لها، من الناحية الواقعية الهيمنة والنفوذ والسيادة داخل الدولة.
(10) ــ يقصد بالقصور في التشريع، عدم تضمن النص القانوني لما تقوم الحاجة اليه من احكام تفصيلية او جزئية. ويتحقق القصور في التشريع متى كانت القاعدة التي تعالج المسألة المطروحة على القاضي موجودة ولكنها غير عادلة او غير منسجمة مع الظروف الاجتماعية السائدة.
(11) ــ سورة النساء الاية 2.
(12) ــ سورة البقرة الاية 233.
المراجع العلمية:
ــ د. عبد الرحمن بدوي، ربيع الفكر اليوناني، الطبعة الرابعة.
ــ هانز كلسن، النظرية المحضة في القانون، ترجمة د. اكرم الوتري.
ــ د. ثروت انيس الأسيوطي، المنهج القانوني بين الرأسمالية والاشتراكية، مجلة مصر المعاصرة، س59،ع 333.
ــ س ف كاناريز، سد الفراغ في القانون وموقف النظام القانوني الالماني منه، ترجمة د. عبد الرسول الجصاني، مجلة القضاء العراقية، نقابة المحامين العراقية، ع1س28.
ــ د. ادم وهيب النداوي، د. هاشم الحافظ، تاريخ القانون 1989.
ــ د. عبد الحي حجازي، موجز النظرية العامة للالتزام، ج 1، المطبعة العالمية.
ــ د. صوفي حسن ابو طالب، مباديء تاريخ القانون.
ــ د. صالح محسوب، فن القضاء، 1985.
ــ د. حسن بغدادي، النقص الفطري في احكام التشريع، مجلة القضاء،بغداد، س4، 1945.
ــ د. سليمان مرقس، مذكرات في فلسفة القانون لطلبة الماجستير ـ جامعة بغداد، 1968.
ــ د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي،سلسلة عالم المعرفة الكويتية، ط3، 1988.
ــ د. محمد هاشم القاسم، اثر الاجتهاد القضائي في تطوير القانون، مجلة القانون السورية، ع 7 س 19.
ــ د. محمد شريف احمد، نظرية تفسير النصوص المدنية،1982.
ــ أ.د السنهوري و د. حشمت ابو ستيت، أصول القانون.
ــ دينيس لويد، فكرة القانون،سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1981.
ــ ابو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل، القاهرة، 1948.
ــ ابراهيم شحاتة، في اجتهاد القاضي،مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، جامعة عين شمس، س4،1962.
ــ د. حامد زكي،التوفيق بين القانون والواقع، مجلة القانون والاقتصاد، مصر، س1ع5 وس2ع2.
ــ د. نبيل عمر اسماعيل، سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية، 1984.
ــ د. وجدي رغب، النظرية العامة للعمل القضائي في قانون المرافعات، منشأة المعارف، 1974.
ــ الاستاذ عبد الباقي البكري،مباديء العدالة مفهومها ومنزلتها ووسائل ادراكها، مجلة العلوم القانونية والسياسية،عددخاص،، كلية
القانون ـ جامعة بغداد،1984.
ــ F. Geny , Science et Technique , en droit
prive positifi t2, t3 , 1921,1923.
ــ G.W Paton , Jurisprudence.1972.
ــ M.O.Stati , Le standard Juridique , 1927.
ــ R. Pound, Justice According to Law, 1951.
ــ R. Pound, An Introduction to Philosophy of
Law. 1955
منول عن شبكة النبأ
صاحب المقال:
فارس حامد عبد الكريم